«الغرض- الفني» ما بين الواقع والخيال: رؤيا مغايرة للواقع المعيش

بقلم: آمال معلول
لعلنا ندرك جميعا بأن الفن كمجال للإبداع هو شاسع ومتعدد، وكمفهوم فهو متجدد ومواكب للعصر ورهاناته.

فنحن ندرك اليوم أكثر فأكثر بأن الفن عمل إنساني. كما أن النشاطات الفنية تأخذ اليوم وأكثر من أي وقت مضى أهميتها في كونها ‹‹ حدث›› و‹‹حضور›› مشحون بانفعال وموقف، مما فتح المجال نحو مفهوم ‹‹المعيشي›› وتزامن مع ذلك مفهوم ‹‹ التفاعلي ›› وأصبحنا نتجه نحو تعددية التمثيل والتأويل.
وقد كانت الثورات المتتالية، الثورات الصناعية والمعلوماتية مناسبة إلى إعادة صياغة مفردات العمل الفني واختلفت تبعا لذلك طريقة التعامل مع الأثر الفني من الناحية الإجرائية والمفهومية. وكل ذلك يساهم في جعل الإنسان أكثر قدرة على استيعاب المتغيرات التي يعيشها العصر.
ولم يعد مجال الفن يقف عند الحدود الذوقية الجمالية المثالية والأساليب التقليدية في الرسم المسندي ‹‹اللوحة››، بل تحولت وظيفته داخل هذا العصر المعولم إلى وسيلة تواصلية. ‹‹ولهذا كان الإبداع الفني في هذه الفترة المعاصرة -ليس كرؤية مجهولة بل كرؤية- تجاوز قوانين المعتاد››1 . وقد هيأت كل هذه الظروف للمبدع ‹‹فنانا كان أم مصمما›› وسائل جديدة لا تعينه على تحقيق أفكاره بتقنيات جديدة فقط، وإنما تجعله يفكر بطريقة مغايرة تصبح فيها للإبداع معان متعددة.

ولذلك وتبعا لكل ما أتينا على ذكره، فقد نزع العديد من الفنانين التشكيليين والمصممين إلى التخلص من مختلف المعالجات التقليدية للعمل الفني لأجل رؤية وتفكير جديدين مع الغرض وبالغرض. فلأعمالهم أهداف داعية بالأساس إلى طمس الحواجز والحدود ما بين الغرض اليومي المستعمل والعمل الفني أو بلغة أخرى انفتاح العمل الفني على الغرض اليومي والمعتاد. فعلى رأي ‹‹ برت راند لافي Bertrand Laviez-›› حين يقول: ‹‹ ...لا مجال أبدا للحديث عن هذه الأغراض خارج التقائها الحالي، الذي يسجل الحدود ما بين الغرض اليومي والمستعمل والعمل الفني... ››2 .

‹‹ الغرض الفني bjet artistique››: التعريف:
يقول ابن سينا في تعريف الغرض أو الشيء، ‹‹بأنه لا يفارق لزوم معنى الوجود إياه البتة، لأنه يكون إما موجودا في الأعيان أو موجودا في الوهم والعقل فإن لم يكن، لم يكن شيئا. ›› فإن الغرض يسترعي انتباه المبدعين أكثر فأكثر. فهو لم يعد ذلك الغرض المهمل أو المجهول الهوية والذي تغيب وظائفه بل أصبح الغرض ذلك العنصر الفاعل في عملية التواصل وفي بلورة المعنى من خلال الأثر الفني. ويشمل الغرض كل عنصر طبيعي أو مصنع، كل غرض من محيطنا المعيشي.

‹‹ الغرض الفني bjet artistique››: نشأة المفهوم:
لعل أول من منح للغرض صيغة جديدة للرؤيا والتمثل هو ما رسال ديشون ضمن ما يسمى بالرادي ما يد أو ‹‹الفن الجاهز››. فمن خلال أثره المبولة وكذلك عجلة الدراجة وحاملة الصحون، قد حول مسار استعمال الأغراض.
فقد عرض دوشان الغرض مجردا إياه من جميع وظائفه السابقة الاستعمالية ليجعل منه أثرا فنيا. مما أحدث تضاربا في الأفكار آنذاك، فكانت أعمال ديشون كصدمة للفن، صدمة بصرية أنشأت بدورها مفاهيم جديدة وطرق مغايرة للتعامل مع الغرض. فالفكرة والمفهوم والهدف والقيمة المراد إيصالها للمتلقي هي سر نجاح العمل الإبداعي منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.
ويمكننا القول كذلك أن ما رسال ديشون باستخدامه للأغراض اليومية والمتداولة قد فتح المجال للعديد من الفنانين وربما يكون كذلك قد هيأ لظهور أهم الحركات الفنية التي برزت في 60 و70 حيث أعطي للغرض قيمة مضافة، إذ نشأت نوعية من الفن تعتمد على القرار أكثر من اعتمادها على المهارة اليدوية.
كما كان للسرياليين الدور الكبير في تدعيم هذا التوجه الفكري ونذكر على سبيل المثال سلفادور دالي، فاتجاه التحليل لديه هو اتجاه يركب تركيبا غير واقعي لمفردات واقعية، بحيث يخلق إثارة انفعالية لدى المشاهد لفعل لامعقولية المنظر المشاهد. وأيضا نذكر بابلو بيكاسو الذي يضيف صفة اللامألوف على الأغراض. ولعل محاولته هذه لتفكيك عناصر العالم الموضوعي وإعادة توزيعها والبحث عن جوهر الأغراض والأشياء، هي التي اختصرت المسافة بينه وبين السريالية. ومن أهم أعماله ضمن هذا المنحى عمله المسمى رأس ثور. فقد جمع بابلو بيكاسو مقعد ومقود دراجة ليضفي بعدا فنيا لمفهوم الغرض أو الشيء. يمكننا أن نذكر كذلك مان راي من خلال عمله الهدية الذي قام من خلاله بإضافة مسامير إلى المكواة مما يؤدي إلى تغيير وجهة نظرنا وتصورنا للمكواة. أو روني ما غريت كذلك، الذي يعد أيضا من أكثر الداعين للبحث عن صور جديدة، تدعو للتفكير، صور صادمة على حد قوله تصمد أكثر لإختبار المشاهد. لقد اشتهر روني ما غريت بخلقه لعلاقات غير مألوفة بين عناصر العالم الظاهري ...‹‹ فالرهان في تصوير ما غريت لم يكن الرؤية فقط وإنما بالأساس الفكرة ››.

‹‹ الغرض الفني bjet artistique››: يؤثث المعلقة:
رغم ما نشهده اليوم من زخم في الصور والمعلقات الإشهارية والثقافية، إلا أننا دائمو الشغف إلى تلك التي تحيرنا، الصور التي تدهشنا والتي تدعونا لفك شفرات المعنى المقصود. ولعل أعمال كل من المبدعين ميشال بتوري وعطا محمدي هي خير أمثلة يمكننا أن نقدمها في هذا السياق.

تجربة المصمم ميشال بتوري
ميشال بتوري هو فنان وجرافييكي من أصل بولوني استقر بفرنسا منذ سنة 1980 تقريبا، وله العديد من المعلقات الثقافية كما له عديد المعارض الفردية والجماعية.
إن المتأمل في معلقات ميشال بتوري يلاحظ أن هذا الأخير من بين المصممين المتشبعين بالمدرسة اللاواقعية التي تدعو إلى إطلاق سراح الخيال. وكأننا بميشال بتوري من خلال هذه الرؤيا يعود إلى فطرته البدائية فيرى العالم ألغازا تتشكل في صورة رموز لا يمكن تفسيرها إلا بمنطق ما فوق الواقع وهو مذهب السرياليين ‹‹ الذي ينطلق من فكرة وجود عالم ذاتي لا يقل واقعية وحقيقة عن العالم المعروف حسيا››.
لقد ساعدت السريالية ميشال بتوري على صياغة جديدة للخطاب التواصلي، صياغة العجيب واللامتوقع، فمنحته الجرأة في المزج بين ما هو مألوف وما هو غير مألوف. فهو تبصر ذكي من ميشال بتوري للصور وللعالم وللواقع من حوله. فعلى رأي أدونيس: ‹‹على الإنسان أن يغير علاقته بالواقع ويبدأ هذا التغيير باللغة او بالعلاقة الجديدة بين الكلمة والشيء، ويجب البحث عن المعنى وراء الظاهر المرئي››3.
فبتوري يقدم لنا من خلال مجمل أعماله الوجود الحقيقي للأغراض بقوالب جديدة مفعمة بذكاء ممزوج بخيال خصب ومتحرر من كل القيود. فالمتمعن في هذه المعلقات يشعر بطرافة العناصر المقدمة، فهو إن شئنا يلامس عناصر الواقع بطريقة غير واقعية. فكأننا بميشال بتوري ينتهج فكرة أندري بروتون القائلة: ‹‹يجب أن نمارس فن التقليد للشيء، يجب أن نخلق عالم بالجمع والتوفيق بين العناصر الممثلة...››4.

تجربة المصمم عطا محمدي
عطا محمدي مصور فوتوغرافي ومصمم جرافيكي من أصل إيراني وله العديد من الصور الفوتوغرافية والمعلقات الإشهارية والثقافية، وله العديد من المعارض أيضا.
لعل أول ما يلاحظه المشاهد لأعمال عطا محمدي سواء من خلال المعلقات أومن خلال الصور الفوتوغرافية المقدمة، تركيز محمدي على حضور الغرض objet بطريقة تجمع بين بداهة أشيائنا اليومية وشعرية الخيالي وغموض المعنى، مما يفتح المجال أمام البعد الرمزي لأعماله.
فرغم الوضوح الظاهر على الخطاب إلا أننا نشعر بوجود خطابات ورسائل ضمنية داخل الخطاب الرئيسي المقدم. هذه هي طريقة عطا محمدي في تمثيل الأغراض وبالتالي طريقته في تمثيل الخطاب. فغالبا ما تكون أغراضه مركبة بطريقة محيرة وحتى النصوص المصاحبة تكون وجيزة. فهي صور صامتة في ظاهرها وبسيطة، ولكنها غنية بالمعاني التي تهمس لنا في صمت.
فمعلقات عطا محمدي كما معلقات ميشال بتوري تستند عناصرها في وجودها غير المألوف معا على مبدأ التناقض. فكأننا بكلا المبدعين شأنهما شأن روني ما غريت يريدان أن يعيدا دهشتنا الأولى إزاء الأشياء، فصنعا نسقا غير مألوف لأشياء مألوفة لينتجا صورا تهدف إلى زعزعة الدلالات السائدة. فلدى هؤلاء المبدعين يخفي المرئي مرئيا آخر غير ظاهرا مؤقتا.

نحو بعد إنشائي للغرض الفني
تحملنا هاتين التجربتين إلى رؤية مغايرة لأغراضنا اليومية، رؤيا فيها بعد قيمي وبعد إنشائي فيه من الدلالات الفلسفية الكثير. وهي من بين الإشكاليات المطروحة على الساحة الإبداعية كما أنها طريقة جديدة للتعبير ضمن تصميم المعلقات تنم عن عبقرية يمكن تسميتها ‹‹ بعبقرية البداهة ›› كما سماها برنار نويل.
فمن خلال بعض العناصر المستمدة من الواقع ومن خلال مستوى ذهني ينحو إلى نزع واقعيتها في إتجاه تساؤلات لا تنتهي يتجلى لدينا نمط في التمثيل البصري يعكس رؤية تختبر كل احتمالات التساؤلات المطروحة حول الأشياء أو الأغراض وعناصر الطبيعة لنعيد البحث والتفكير فيها، وكل ذلك بغية الوصول للمعاني والمفاهيم التي هي أساس بحث وارتكاز في عمل كل من ميشال بتوري وعطا محمدي. فقد جعلا من الأغراض تظهر في وضعيات ملفتة للإنتباه تفتح الدلالة على البعد الإنشائي الذي يحملنا إلى حدود الغير معقول وهو ليس بالأمر الغريب على عطا محمدي إذ يقول ‹‹ بأنه يعتقد بأن التصميم لا ينبغي أن يستخدم لمجرد الإعلان أو من أجل الجمال لكن يمكن أن يكون أداة ليخدع››5.
فالرهان في هذا التصوير المقدم شأنه شأن التصوير مع الفنان روني ما غريت لا ينشد الرؤية البسيطة ولكن ينشد الحراك الفكري المولد للدلالات من خلال المفارقة والمزج بين واقعين متباعدين، وكلما كانت العلاقات بين الواقعين بعيدة وصائبة، أصبحت الصورة قوية وستملك قوة انفعالية وواقعا شعريا يجعل منها صورا صادمة.
إن ميشال بتوري وعطا محمدي ينطلقان من التصميم القائم على الرمز ليصلا إلى المفهوم الفلسفي عبر رؤيا إنشائية للغرض. فقد تعديا درجة الممارسة للتصميم القائم على إيصال رسالة أو الاعلان عن حدث إلى تقديم التصميم الذي يكون بالأساس وظيفة رمزية تدعم الفضاء العام الاجتماعي القيمي والنقدي وتسمو إلى المعنى الإنشائي. فعلى رأي رشيدة التريكي، ‹‹فقد ولى الزمن الذي كان العمل الإبداعي من خلاله لا يمثل إلا فرصة لتجلي الحضور الذاتي، .... وتسمح كل هذه الاعتبارات اليوم للفلسفة بالوقوف بعمق أكثر ونفاذ أكبر على القيمة الإنتاجية والمشيدة لعمل الفن... لهذا تفتح الإنشائية حقلا جديدا للعلاقة بين الفلسفة والإبداع...››6.
ولعلني أختم لأقول، بأن تعايشنا لمدة مع هذه الأعمال قد رسخ مبادئ التصميم في أذهاننا، ودرب عيوننا على النظر والمضي قدما نحو الخيال بكل شجاعة وحرية. فقد علمتنا أعمال ميشال بتوري وكذلك عطا محمدي، بأنه لا حدود لفعل التصميم، كما عودتنا بأن لا نخشى الغرض ولا المساحة ولا الحدث. فقط بحبكة الفكرة وبالأسلوب البسيط والمختزل يمكننا أن نكون على الطريق المؤدية إلى التصميم الناجح.
----------
1 - مقتطف من مقال لإبراهيم بن نبهان- مقال بعنوان « في تجربة الفنان ياسر جرادي»- وارد في موقع:
(http:/ altshkeety. brinkster. Net/ 2013/calligraphie 2013)
2-...impossible donc de faire parler ces objets en dehors de leur rencontre, qui marque l’exacte limite entre l’objet courant et l’œuvre d’art.»extrait d’un article sous le titre « Art et Design «, en ligne. Le site « http://mediation.centrepompidou.fr/education/ressources/ENS-ARTS-ET-DESIGN/ENS-arts-et-design.htm
3 - سمير غريب. السريالية في مصر. المشرف العام سمير سرحان. الإشراف والتنفيذ الفني هلا للنشر والتوزيع. ص 300.
4-Berio Adam. Le surréalisme et la photographie.1913-1939. P149.
5 - قول مقتطف من احدى تصريحات عطا محمدي على الموقع التواصلي الفاسبوك قدمه للتعليق على أعماله. بالموقع: https://www.facebook.com/pages/Ata:
Mohammadi/416463525114704).
6 - رشيدة التريكي. الجماليات وسؤال المعنى. ترجمة وتقديم إبراهيم العميري. الدار المتوسطية. بيروت. تونس. الطبعة الأولى 2009.ص 48.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115