المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية: ليالي العشق الصيفيّة وقَصصُ الحُبّ الوَردية

وحيد السعفي

كبرنا في حبّ المهرجان وعشنا على إيقاعه. لا شيءَ مثله هنا. انبعثت المهرجاناتُ قبله ومثله وبعده ثمّ اندثرت كأنّها لم تكن. ماتت المهرجانات

من غيره، مهرجان البحر ومهرجان الصيف ومهرجان الفنون التشكيلية. وظلّ صامداً لا يموت. ومرّت الوزراء. في كلّ دورة يأتينا وزيرٌ يَعدُ بالإنجاز الذي لم يُنجزه غيرُه ويَعدُ بالعطاء مدراراً ويُوهمنا أنّ المهرجانَ سيُصبحُ في عهده ازدهاراً. ويَمرّ الوزيرُ ولا إنجازَ لم يُنجزه غيرُه ولا انهمر علينا مالُه مدراراً. ومرّت الولاةُ. في كلّ دورة يتكلّم فينا والٍ يُثمّن كلامَ الوزير ويعدُ بأنّ الولاية ستضطلع بمهامّها كاملةً وتجعل من المهرجان إشعاعاً. ويمرُّ الوالي فلا اضطلعت الولايةُ بمهامها كاملة ولا ازداد المهرجانُ إشعاعاً. ومرّ رؤساءُ البلديات. في كلّ دورة يتكلّم رئيسٌ للبلدية فيُشيد بالتعاون المُثمر بين الوزارة والولاية والبلدية التي لا تدّخرُ جهداً ويفتح على المستقبل الآفاق. فلا أثمرَ التعاونُ ولا انفتحت الآفاق.

ودام المهرجان.
في ظلّ الصراعات على التبعيّة والاستقلال، بين الوزارة والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، دام المهرجانُ. في ظلّ الصراعات على اتخاذ القرار، بين الوزارة والولاية والبلدية، دام المهرجانُ. في ظلّ الصراعات على تسمية الهيئات المديرة ورؤساء الدورات، دام المهرجانُ. في ظلّ الصراعات على التمويل وحجب التمويل وصرف الميزانية، دام المهرجانُ. في ظلّ الصراعات والتراشق بالتهم والادّعاءات والتعلاّت، دام المهرجانُ.

عرف المهرجانُ الويلاتِ. كان صوتاً حُرًّا في بلد الصمت. سَعتْ إليه السلطاتُ تُريده صامتاً مثل كلّ المؤسّسات. ولم يصمتْ. عرف الويلات حجباً وتطاولاً عليه وإفقاراً له حتى يموت جوعاً، فعاش فقيراً ولم يمتْ كما شاءت السلطاتُ. وتبرّأ منه وُزراءُ. وتبرّأ منه وُلاةٌ. وتبرّأ منه رؤساء البلديات. فعاش صعلوكاً في بلد التبعية للسلطات. وعاش كما يعيش الناس في بلد الصمت والتبعية للسلطان متستّراً على أمره أحياناً، مُدارياً الظروفَ الصّعابَ أحياناً، ثائراً ثورته العارمة إذا ما بلغ به الأمرُ حدّ الثورة على الأوضاع.

ودام المهرجان.
كان فضاءً للإبداع. هنا تتبّعنا معالمَ الصورة. هنا تعلّمنا. هنا تعرّت لنا تونسُ الخضراء بؤساً وفقراً وظلماً وقمعاً وقتلاً للصوت في مَنْ أراد أنْ يُصوّتَ من أبنائها. هنا تجرّدت لنا القارّة السمراء من ثيابها، وسقطت عنها أقنعتُها، وباحت بالعرف والتقاليد المكبّلة. هنا تجلّت لنا حقيقةُ الأعراب والمسلمين في كلّ برّ، مليارين من الجَهلة والفقراء تحكمهم شرذمة من الصقور الكاسرة والأقراش الشرسة. هنا رأينا على الشاشة أنفسنا. هنا رأينا أحلامنا البائسة وما نصبو إليه وما نشاء. هنا عرفنا تجارب العالم. هنا عرفنا ما أتاه الغربُ فينا استعماراً وثقافةً ودرساً. هنا عرفنا أنّ التطرّفَ يترصّدنا.

خبرنا الحياة.
مهرجانُ الوزراءِ والولاةِ ورؤساءِ البلديات ومَناديبِ الثقافة فرصةٌ للتدشين والخطبة التي تتم بها المجاملة بينهم والادّعاءات التي لا تُفيد والتباهي بما فعلوا والإشادة بما سيفعلون. ثمّ يعودون، كلّ إلى غايته. ومهرجاننا شيءٌ من حياتنا التي تُصبحُ أخرى خلال المهرجان، فتتفتّق طاقاتنا في كلّ مجال، وتتّسع صدورنا لكلّ أمر. نُصبح لفترة سينمائيين ونقّاداً، نُصبح خُطباء، نجادلُ دون حرج أهل الفنّ والسينما، نتطرّق إلى المواضيع التي كانت تُخيفنا، ولا نخاف عَيناً جُعلت علينا، ولا نخاف مُخبراً.

مهرجانُنا فرصةُ التقائنا العالمَ. هنا عرفنا العربيةَ الفنّانةَ وباحت لنا بسرّها الدفين وقطّعت قيودها التي تشدّها إلى بلد الأعراب. هنا عرفنا الإفريقيةَ الفنّانةَ فكان سوادُها ضياءً في عالمنا القاتم الحزين. هنا عرفنا الأوربيّةَ الفنّانةَ التي انقلبت في لحظة تقدّميّةً في خدمة العالم الثالث، وعرفنا الأمريكيةَ الفنّانةَ من الشمال والجنوب فطُفنا في عوالم لا تعرف الحدود.
مهرجاننا قَصصُ عِشقٍ صَيفية، قَصصُ حُبّ وَرديّة، نمتلئ بها مدى الدهر وإن تمّت في أقصر وقت. مهرجاننا ليالٍ للحياة الدائمة، اقترنت بالنهار من حيثُ لا نشعر، فكانت السعادة القُصوى.

ورأينا في المهرجان على مرّ دوراته التي بلغت أربعاً وثلاثين دورة، وعمره الذي بلغ خمساً وخمسين سنة، وجوهاً كانت صَغيرةً صَغيرةً، كانت هاويّةً، ثمّ صارت نجوماً أو كالنجوم، مُمثّلات ومُمثّلين، مٌخرجات ومُخرجين، كاتبات سيناريو وكتّاب سيناريو، مهندسات ومهندسين في الصوت والصورة وكلّ فروع التقنية. كلّهم مرّوا من هنا، مرّوا بحيّنا، واحتضنهم مهرجاننا، ودفع بهم إلى أعلى الرتب. بعضهم ما زال يذكر ذلك حنيناً وذكرى، وبعضهم تناساه، وبعضهم خانته الذاكرة فينا إلى الأبد، ولكنهم جميعاً، دون استثناء، لم يردّوا الودّ بالودّ، لم يعترفوا بالجميل لمهرجاننا، فلا هم قاموا أصواتاً تُدافع عنه إذا ما رُميَ بأشنع التهم، ولاهم تبنّوه وأحاطوه بالرعاية اللازمة، ولا هم كوّنوا جمعيّة الأحبّاء التي تسهر على أمره. ولا هم أهدوه من مالهم الذي اكتسبوه بفضله. كانوا هواةً، صاروا محترفين، ضاعت علاقتهم بالمهرجان. مرّوا من هنا. رحلوا.

ودام المهرجان.
دام مَعْلماً في البلاد. دام في ظلّ مَعلَم آخرَ شامخٍ. دام في ظلّ البرج، برج قليبية الذي لا يعرف الرضوخ. لا يشكو أمره أحداً. يتقادم، يتآكل، تغمره الأعشاب الخانقة، تتساقط منه الأحجار الكريمة التي تُحدّثُ بتاريخنا المجيد، ولا يشكو أمره أحداً، يتألّم في صمت ويظلّ شامخاً، لا ينحني لأحد. منه تعلّمنا الشموخ. لا ننحني لأحد. وفي ظلّه عَبثْنا عَبَثَنا البريء. وعند ركنه عرفنا القُبلةَ وداعبنا وأكلنا مثل آدم وحوّاء من الشجرة، شجرة المعرفة، شجرة الحياة الخالدة. صار رُكنُه قِبلَتنا، نزوره ونقبّل الحَجرَ الأسودَ.

كذلك نحن هنا. حياتنا لَيالي عِشقٍ صَيفيّة وقَصصُ حبّ وردية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115