قراءة في كتاب حمادي صمود « طريقي إلى الحريّة وكتابة الاختلاف: من التفكير في الأنساق إلى التأريخ للذّوات.»

بقلم: شكري الجميعي
«طريقي إلى الحريّة وكتابة الاختلاف: من التفكير في الأنساق إلى التأريخ للذّوات.

«وهي محاولة في قراءة كتاب: « طريقي إلى الحريّة» للأستاذ صمّود. واستجابة لمقتضيات مقام المشافهة نعرض عليكم الرؤية وخطّة المحاولة كما يلي:
1 – أوّلا سنتولّى تقديم الكتاب كما أراد له صاحبُه وهو مصنّف نثريّ من جنس السرد. وهو أدخلُ في أدب السيرة والترجمة للذّات. ولكن الكتاب قد صنع لغايات أخرى أبرمها المؤلف في فاتحة الكتاب بعد أن عدّه:
- تقريرَ شهادة تتعلّق بمرحلة هامّة من تاريخ البلاد في ميداني التربية والتعليم.
- تحيّةَ إكبار واعتراف بالجميل إلى جميع الذوات الفاعلة في بناء شخصية المؤلف.
- اعترافا لدولة الاستقلال واختياراتها الكبرى في مجال التعلّم والتعليم.
2 –ثانيا سنتولّى تحديد مقاصد العنوان: وأوّل هذه المقاصد ومنتهاها رصد مستويات كتابة الاختلاف ومظاهرها في الأثر.
ومنطلق الحديث عن الكتاب موصول بما انتهى إليه صاحبه في فصل من فصوله وسمه بنعته « أبواب مشرعة « فتحها المؤلِّف على وجهة في البحث تأسست هويتها على كتابة الاختلاف في التفكير والإنتاج العلمي، وأظهرُ سمات الاختلاف ماثل في أطروحة الأستاذ الشهيرةُ: « التفكير البلاغي عند العرب: أسسه وتطوّره إلى القرن السادس.» فقد خالف بها صاحبها - في زمن تأليفها منذ ما يناهز عن الأربعةَ عقود - عُرفا جاريا في التأريخ للفكر البلاغي وتأصيله بعد أن عوّل أصحابه فيه - إلاّ أقلّهم - على التحقيب الزمني وغلب على بعض دراساته الانطباع والتجزيء والاختزال في التأريخ للنسق البلاغي وأسسِه اللغويّة والعقدية والنقدية...
وللأطروحة دلالات في ذاتها - وليس ههنا موضع بسط القول فيها – ولها دلالات في غيرها بما تناسل منها من بحوث وأطروحات علميّة جادّةٍ استأنف فيها أصحابها تعهّد الأصل ونشرَه وتفريعَه، والزيادةَ في إنتاج المعرفة بما صنّفت العرب من أحكام كلية جامعة في مجالات إنتاج الخطاب ونقده وتفسيره وتحليله وتأويله...
وإنّ أجلى مظاهر الاختلاف في هذا المنزع من البحث استئناف القول في البلاغة العربيّة بعقد التأريخ لها على قضايا، كثيرا ما انتهت بصاحبها إلى الاستدراك على بلاغة الوجه ببلاغة الخطاب تحليلا وتأويلا انطلاقا من شبكة قراءة وازنت - في زمن تأليفها - بين ما جدّ في علوم اللسان - مصطلحا ومنهجا وما كان يقتضيه الفكر البلاغي والنقدي العربي من تأصيل نوعيّ يستوجب الخوضُ فيه والترفّقَ في تقرير الأحكام و النتائج والصدور عن نظرية العرب في المعرفة ورؤية العالم.
وأمّا كتابة الاختلاف في التأريخ للذوات فماثلة في مستويين: في بنيةِ الكتاب وهياكل الكلام. وفي مستوى ما علقه المؤلّف بالبنى الأسلوبية في الأثر من وظائف:
- مظاهر كتابة الاختلاف في بنية الخطاب السردي للأثر:
- وأوّل مظاهر كتابة الاختلاف في بنية الخطاب السردي للأثر:

1 - بلاغة الخطاب:
ومظهرها في العدول النوعي عن ميثاق التأليف في أدب السيرة من جهة رتبة اللغة الساردة في البلاغة، ذلك أنّ مؤلف الكتاب بلاغيّ بليغ، وفي الكتاب بلاغة عامّة تتولّد منها بلاغات آخذ بعضها برقاب بعض منها: بلاغة اللفظ وبلاغة المعنى وبلاغة الوصف وبلاغة التبرير وبلاغة الانتصار... واشتغال لطيف على محوري الجدول والتوزيع واحتفاء بالواقعة والعبارة في صياغة تفاصيل الكتاب.
وصاحب الكتاب لا يقف بصناعة المعنى عند التفكير في مواقعه وأحواله وطرق استحضاره وانتظامه في الذهن وإنّما يفكر في هيآته وجهات التصرّف فيه وما تُعتبَرُ به أحوالُه ومقتضى حالِه ومسالكُ تفسيره وتأويله وسياسته... حتّى إنّ الجملة من السرد في الكتاب لفي طبقات تتناسل ويتراكب بعضها فوق بعض: فمن طبقة للشعر والتخييل وطبقة من للبلاغة والبيان وطبقة من للأحداث والوقائع.
- وثاني مظاهر كتابة الاختلاف في بنية الخطاب السردي:

2 - مقامات الكتابة والتأليف:
ومظاهره: العدول عن شروط إنتاج المعرفة العالمة داخل فضاء الجامعة. والتخفف من مواضعات الكتابة في أفق المؤسسي ومقررات المواثيق وعقود الكتابة البحثيّة إذ الكتاب في الترجمة للذات. فكان الاختلاف سمة من سمات الكتاب تشقّ طوله وعرضه في مستويين:
- مستوى التحولِ عن التزام ضوابط العلم - كما يقتضيها البحث - إلى لذّة النص وإنشاء الخطاب حيث جواز التفريط في القوالب والمقررات إصغاء إلى صوت الذات في فرادتها بعد أن كفاها الإخلاص إلى شروط المعرفة العقليّة ومقتضيات العلم عقودا من البحث والتدريس. فكانت كتابة السيرة لحظة تحوّل من تفكيك النصوص وتحليل الخطاب إلى إبداع الخطاب وإنشائه.
- ومستوى التحوّل من التفكير في الأنساق والتأريخ للقضايا الجامعة والإصغاء إلى فكر الآخرين - بلاغيين ونقادا ومنظري أدب - إلى الإصغاء إلى صوت الذات وصوت الذوات الفاعلة في بنائها وتكوينها سواء تلك الذوات المعاصرة لها أو السابقة عليها في الرتبة والزمن.
- وثالث مظاهر كتابة الاختلاف في بنية الخطاب السردي:

3 - الحواريّة والتناص:
ويظهران في هذا الجمع الطريف بين الوفاء للذات وخطّتها في صياغة العبارة عنها والتناصِّ بينها وبين أصوات سردية عُدّت علامات بارزة في تاريخ السردية الحديثة : حنّا مينا في وصف البحار وطه حسين في تقرير التفاصيل وترتيبها والتبئير على ما يقع من القلب والعقل موقعا حميدا إذ يكرس السارد النموذج الأوفى لذات تنحت على الصخر وتغالب الصعاب لتكون...
- ورابع مظاهر كتابة الاختلاف في بنية الخطاب السردي:

4 – جدل المرجعي والمتخيّل:
وتكمن مظاهره في إبرام عقد الكتابة مشدودا إلى أنا واقعية تقيّد بصدق خلاصة التجربة وتفصيلها بالتعويل على الذاكرة: آلةَ السرد ومصدرَ مادّته ووسيلة بناء الخطاب، هذا من جهة وتوخّي الإجمال والرقابة والتحفّظ والانتقاء والإسقاط في مواضع أوجبتها مقامات وأخلاق وأهداف، بما يكشف عن هندسة مؤلّف يصدر عن تصوّر للقول وسياسته ويستشرف ما قد ينتج عنه من تصوّر عن القائل السارد ومنزلته في علاقته بالأشخاص والمؤسسات والأحداث...)
- وخامس مظاهر كتابة الاختلاف في بنية الخطاب السردي:

5 – جدل الجد والهزل:
وأجلى مظاهره: بلوغ الغاية في التوسط بين حالين - أو قل بين بلاغتين - في عرض الوقائع: بلاغةِ الجِدِّ حيث غلبة الكد والجهد والإشادةُ بالترقي المعرفي، وبلاغة الهزل حيث التقاط تفاصيل حياة الصبى ووصف ما يأتيه الصبيان من شغب وحيلة ومغامرات ( في الفصل الأول من الكتاب).
- مظاهر كتابة الاختلاف في مستوى ما يعلق بالبنى الأسلوبية في الأثر من الوظائف:
وأوّل مظاهر كتابة الاختلاف في مستوى وظائف البنى الأسلوبية وهياكل الكلام في الأثر:
1 - بناء النموذج والمنوال:
- وصل فعل التذكّر الذاتي بما تؤمن به الذات من قيم ومبادئ في الحياة عبر انتخاب الأحداث داخل سياق من الموافقات الأخلاقيّة والاجتماعيّة تنتهي إلى غايات تواصليّة، يصير السارد - بمقتضاها - علامة تغري بالاهتداء والاقتداء وتحفّز على المحاكاة والاتباع.
وثاني مظاهر كتابة الاختلاف في مستوى وظائف البنى الأسلوبية وهياكل الكلام في الأثر:
2 – جدل الإنيّة والغيريّة:
- وأوكد مظاهره إيجاد التطابق بين ذكريات الماضي المنقضية وصور استرجاعها في النص، حتى تحوّلت العبارة عن هذا التطابق سعيا طريفا لإعادة بناء الذكريات على نحو تكون فيه متآلفة مع رؤية المؤلف الفكرية النامية في الزمان. وتكون الغاية من الكتابة عن الذات معبّرة عمّا يحسن أن تكون عليه الأجيال القادمة من مبادئ وقيم لا مجرد التأريخ لوقائع عاشتها الذات المتلفظة.
وثالث مظاهر كتابة الاختلاف في مستوى وظائف البنى الأسلوبية وهياكل الكلام في الأثر:
3 – جدل الآني والزماني:
- وتجلياته في إصابة المقدار في تعهّد أحداث الماضي بالتوسع والبسط تحقيقا لمعان أول هو التوثيق والشهادة على العصر والاعتراف بالفضل لأصحابه وتأكيدا لمعان ثوان مدارها على إنشاء نموذج يتشكّل باللغة حكاية مسرودة بعضُ وظائفها التخييل وصناعة نظام قيم يساعد على بناء شخصيّة فذة يتيحها المؤلف تشريعا للمحاكاة والاقتداء.
ورابع مظاهر كتابة الاختلاف في مستوى وظائف البنى الأسلوبية وهياكل الكلام في الأثر:
4 – جدل التبئير والتطهير:
- وصف الوقائع وتقرير المواقف والأحكام التي عاشها المؤلف بشحن وجداني كثيف. عبّر عنه الكاتب بهندسة محكمة وصلت زمن الحدث وزمن السرد بزمن الكتابة وزمن القراءة وانتهت إلى حمل القارئ حملا على مشاركة وجدانية حارّة تتوزع في الغالب بين الشفقة والإعجاب فالانبهار. وقد يداخل هذه الانفعالات حسدٌ وغبطةٌ بحسب صلة القارئ بالمؤلف في الواقع أو في الكتاب.
هذه محاولة في مقاربة أثر أعتبره نسيجَ وحده في ما حواه من فرادة في السيرة وتفرّد في المسيرة وبلاغة في الخطاب، وهو قرينة صدق على أصالة أخلاق منشئه وجدارته بأن يكون فخر الجامعة التونسية وقِبلة مريديه وطلبته في العلم والتجربة. ولئن كانت العرب تجوّد ابتداءات كلامها لأنّها أوّل ما يقرع السمع فقد جوّد الأستاذ مسارا طويلا من البحث والتدريس غنم منه روّاد الجامعة التونسية أيما غُنم ولئن كانت العرب تجوّد خواتيم كلامها لأنها آخر ما يعلق بالأذهان، فقد حاز الأستاذ على رتبة سنيّة في درجات المزيّة والفضل بما ألّف من سيرة ومسيرة تلفت الأنظار وتحوز على الإجلال والإكبار.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115