وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم؛ فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة، فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله، قال تعالى إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا (المزمل:6) فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالاً على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام أناء النهار، بدلالة فحوى الخطاب، قال تعالى: إن لك في النهار سبحا (المزمل:7).
الوقفة الخامسة: قوله تعالى «يحذر الآخرة» أي: يحذر عذاب الآخرة. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: «يحذر الآخرة» قال: يحذر عقاب الآخرة، «ويرجو رحمة ربه» يقول: ويرجو أن يرحمه الله، فيدخله الجنة.
الوقفة السادسة: قوله تعالى «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» أي: هل يستوي الذين يعلمون» ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، «والذين لا يعلمون» ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيراً، ولا يخافون بسيئها شرًّا؟ فما هذان الفريقان بمتساويين. قال الزجاج: أي: كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه، ولم يعمل به، فهو بمنزلة من لم يعلم. وفي هذا تنبيه عظيم على فضيلة العلم؛ فالمؤمن العالم بحق ربه، ليس سواء للكافر الجاهل بربه.
الوقفة السابعة: قال ابن عاشور: إعادة فعل «قل» هنا؛ للاهتمام بهذا المقول؛ ولاسترعاء الأسماع إليه. والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار. والمقصود: إثبات عدم المساواة بين الفريقين، وعدم المساواة يكنى به عن التفضيل. والمراد: تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، كقوله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين (النساء:95)، فيُعرف المـُفَضَّل بالتصريح، كما في آية «لا يستوي القاعدون» أو بالقرينة، كما في قوله هنا: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» لظهور أن العلم كمال، ولتعقيبه بقوله: «إنما يتذكر أولوا الألباب» أي: لا يستوي الذين لهم علم، فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه، وتجري أعمالهم على حسب
علمهم، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه، بل تختلط عليهم الحقائق، وتجري أعمالهم على غير انتظام، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة، ووضعوا الكفر موضع الشكر. فتعين أن المعنى: لا يستوي من هو قانت أناء الليل، يحذر ربه ويرجوه، ومن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. فـ «الذين يعلمون» هم أهل الإيمان، قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر:28) و«الذين لا يعلمون» هم أهل الشرك الجاهلون، قال تعالى قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (الزمر:64). وفي ذلك إشارة إلى أن الإيمان أخو العلم؛ لأن كليهما نور ومعرفة حق، وأن الكفر أخو الضلال؛ لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة».