مسرحية دون كيشوت كما نراه للشاذلي العرفاوي ضمن مسرح المبدعين الشبان: ثورة التكنولوجيا تجدّد الفعل المسرحي

الجنون يجمعنا، فجميعنا مجانين في قرارات ما، جميعنا لنا نصيب من الخبل ومرض العظمة احيانا، كلّ منا يرى انه الافضل

ويرى انه الفارس المغوار وحده القادر على تحرير الاخرين، هكذا يرى الشاذلي العرفاوي دون كيشوت وهكذا قدمه الى جمهور مسرح المبدعين الشبان.

«دون كيشوت كما نراه» مسرحية دراماتورجيا وسينوغرافيا واخراج الشاذلي العرفاوي ومساعد مخرج لطفي الناجح و موسيقى لحسام التركي وفيديو يوسف الشيخاوي وديكور علاء السعيدي واضاءة علي الهلالي وتمثيل عبد القادر بن سعيد ومنصف العجنقي مسرحية قدمت النص الاصلي مع توظيف للتقنيات التكنولوجية الحديثة فصنعت مشهدية مبهرة لمسرح ما بعد الحداثة.

مسرح بتقنيات سينمائية
ديكور بسيط، دراجتان هوائيتان ودراجتان ناريتان، الركح حدّد بأشرطة حمراء مع علامات «قف» و اشارات «ممنوع المرور» ومجموعة من اشارات المرور التي توضع على الطرقات لتخفيض السرعة او للتنبيه من المطبّات، ضوء ازرق كأنه لون السراب يخفي حقائق خلفه، موسيقى هادئة كما تهدّجات الروح اثناء الصلاة ابدع في صياغتها للعرض حسام التركي، شخصيتان على الركح تركبان الدراجة النارية، لتنطلق الحكاية ويصرح «دون كيشوت» انه سيحارب الطواحين، حركات الدراجة انعكست على كامل الحائط لتقدم صورة لدون كيشوت بحصانه وعلى الركح نجده على الدراجة في سياق تطور الفكرة والحركة المسرحية واستعمال تقنيات حديثة على الخشبة.

فالفن المسرحي فن منفتح على بقية الفنون وتقنياتها، والفعل المسرحي يقبل التجديد ويواكب الثورات التكنولوجية ويستفيد منها لتقديم عمل مسرحي يواكب التقنيات الحديثة ويوظفها وتلك ميزة مسرحية «دون كيشوت كما نراه» فالمخرج اعتمد «مابينغ فيديو» الذي انجزه يوسف الشيخاوي، فالفيديو واكب رحلة دون كيشوت كاملة وقدم للمتفرج تفاصيل جمالية مبهرة اثناء الصراع مع الطواحين، او صراعه مع قطيع الغنم او ضحكة الغانية في خان الطواحين الحمراء حتى لحظات السقوط/، الفيديو المتحرّك كامل القاعة يشعر الجمهور أن مايراه حقيقة.
في الديكور الذي أنجزه علاء السعيدي مع المركز الوطني لفن العرائس اعتمد على ديكور بسيط تاركا الأساس لأجساد الممثلين التي كانت محامل جمالية من خلال تقنية «التقطيع» في الحركة خاصة حركات عبد القادر بن سعيد الذي جسد دور «دون كيشوت»، «التقطيع» تقنية تستعمل في المونتاج و الفيديو وظفها المخرج في حركات اجساد الممثلين لتكون الحركة بطيئة كانك تحرّك الشخصية من خلال فأرة الحاسوب وكأن الذي أمامك ليس إنسانا.

في «دونكيشوت كما نراه» كانت المسرحية حركة متطورة منفتحة على الثورة التكنولوجية بكل مقوماتها، فالإضاءة كانت جزءا من الحكاية، الاضاءة التي انجزها علي الهلالي كانت مطية لتقديم تفاصيل جمالية وصور سينمائية تلخّص المشاهد و الجمل الكثيرة التي كتبت في الرواية الاصلية، الاضاءة من العناصر الجمالية التي ساهمت بطريقة واضحة في صياغة المشهد الجمالي الذي استشعره المتفرج وكانت مطية للمرور من حرب الى اخرى في تماه مطلق مع الفيديو والموسيقى فبوسائل السينوغرافيا المتجددة والاعتماد على التقنيات الحديثة صنع الشادلي العرفاوي عملا مسرحيا يندرج في خانة مسرح مابعد الحداثة، مسرح يواكب التجديد ويصنع الفرجة دون الاعتماد على ديكور ضخم ونص طويل، مسرحية متجدّدة تقنيا تؤكد انه كلما كان إطلاع المخرج عميقا وشاملا كلما اصبح بمقدوره ان يجسّد أفكارة وتصوراته وحلوله الإخراجية بسهولة وبسبل فنية مدهشة و ساحرة وهكذا رأى الشاذلي العرفاوي ومساعده لطفي الناجح دون كيشوت.

داخل كل منا دون كيشوت وجنونه
«ابحث دوما عن الحقيقة» هي اكثر الجمل المكررة في مسرحية «دون كيشوت كما نراه»، هي دعوة مباشرة من السينيور الى تابعه لينصت ويبحث عن الحقيقة التي يجدها عند الراعي ولا يجدها عند الغني والسياسي كما يقول في العمل، والمفارقة بين الصدق والزيف التي تحدث عنها الكاتب «ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا» في روايته بين العامين 1605 و 1615 هي نفسها لازلنا نعيشها في العام 2019، فلازال الراعي اكثر صدقا من السياسي لأنه لا يبيع الوعود.

في «دون كيشوت كما نراه» كان النص كما هو، نص عالمي يصلح لكل العصور، نص في جزء منه الكثير مما يعيشه التونسي اليوم، خاصة سياسيوه، فكم من سياسي دخل الى عالم السلطة والسياسة وهو يرى في نفسه «دون كيشوت» و يرى الاخرين «اعداء وجب محاربتهم» ، كم من سياسي يسكنه «دون كيشوت» بكل خبله وجنون عظمته ويحاول أن يصنع لنفسه مجدا على هموم «الرعاة»، (حذار سيدي انهم مجرد قطعان غنم ليسوا بجنود) .

كم من مدير او صاحب قرار يرافقه ويعمل معه شخص وفيّ كما سانشو بانثا لكنّ مرض العظمة يدفعه الى احتقاره والاستهزاء بقدراته وان أبدع كم من مخرج فني كانت قدراته محدودة لكن مرض العظمة وازدراء الاخر جعله يخرج اعمالا منذ ولادتها محكوم عليها بالفناء.
فدون كيشوت يسكننا جميعا، داخل كلّ منا البعض منه، من جنونه او خبله او مرض العظمة وربما تصديق ما جاء في الكتب والدساتير والايمان انها حقائق مطلقة لنصطدم بزيفها حتى لكأننا على وشك الجنون في فترات ما، جنون يؤدي الى السقوط حتما جاءت رمزيته من خلال تغيير الدراجة النارية باخرى هوائية أي من حركة سريعة جدا الى فعل بطيء كما الموت.

«دون كيشوت» الشاذلي العرفاوي هو تونسي بكل تناقضات التونسي، هو الساحة السياسية بكل مشاكلها و المشهد المسرحي بخبله وتقلباته، هو عالم الثقافة بكل ماتشهده من ارهاصات قدمها مبدعان مميزان هما عبد القادر بن سعيد ومنصف العجنقي اللذان ابدعا في تقمص الشخصيتين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115