وهو سيدنا عبد الله بن مسْعُودٍ، رضِيَ اللَّه عنْهُ، الذي قَالَ: كَانَ مِن دُعَاء رَسُولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك مُوجِباتِ رحْمتِكَ، وَعـزَائمَ مَـغْـفِرتِكَ، والسَّلامَةَ مِن كُلِّ إِثْمٍ، والغَنِيمَةَ مِن كُلِّ بِرٍّ، وَالفَوْزَ بالـجَـنَّـةِ، وَالـنَّـجاةَ مِنَ الـنَّـارِ».
رواهُ الحاكِم أبو عبد اللَّهِ، وقال : حديثٌ صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وهذا الكلام النفيس مُصَدَّرٌ كسائر الأدعية بقوله: اللهمَّ، ومِن جَديدٍ نلاحظ تكرار كلمة النّداء هذه، الدَّالة على الضراعة والافتقار، فما ثمَّةَ حالٌ من أحواله، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، إلا وهو حالُ توجّهٍ وعبوديّةٍ كاملة لله، لا تَتَغَيّر ولا تفترُ. ويشير راوي الحديث أنه كان من دعائه وقد يفهم من هذه الصيغة أن النبي كان يدعو به باستمرار حتى صار من جملة كلامه المحفوظ.
ثم يتوجه الحبيب إلى حبيبه قائلا: إِنِّي أَسْأَلُك: ومعناه أنَّ الرَّسولَ، يَقف من الله موقف الضراعة والسؤال، وهمَا حالان باطنان يعيشهما بقلبه الشريف قبلَ أن ينطق بهما لسانه الزكيٌّ. وما من أحدٍ واَفَقَ ظاهرُه باطنَه وكلامُه حالَه أكثر من الرسول، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فهو في سؤال دائم ودعاء لا ينقطع ونداء لا يفتر مصداقًا لقوله تعالى»ادعونِي أستجبْ لكم»، فكانَ خَيرَ مَن دَعَا وسَألَ، وهو خيرُ من استجيب لَه.
ولمَّا كان كل سؤاله ودعائه عن جوامع الأشياء لا عن تفاريقها وعن أصولها لا عن فروعهَا، وذلكَ لشدة معرفته لله ولفصاحة كلامه الشريف، خَصَّ السؤالَ عن مُوجبِات الرّحمة، فكانَ هذا من جوامع الكَلِم ومحاسن القول البديع. والمقصود بموجبات رحمتك أسبابها، قال العلامة الطيبي في شرح هذا الحديث: جمع مُوجِبَة وهي الكلمة الموجبة لقائلها الجنة ، يعني الأفعال والأقوال والصفات التي تَحصلُ رحمتكَ بسببها» ويمكن أن تشملَ كلَّ أسباب الرحمة ودواعيها وتفصيل ذلك يَطول ولكن تكتفي بذكر مظاهر منها مثلَ رحمة الناس يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التغابن:14)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم»ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وقال الله تبارك وتعالى: قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ (الجاثية:14)، وقال الله تبارك وتعالى: أيضا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه (الشورى:40)، ومن موجبات الرحمة: ذكر الله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده،»
ومن موجبات الرحمة أيضا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله عز وجل: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ التوبة:71.