في اطار البرنامج الثقافي للقمة العربية: «درر المالوف2».. نحن حرّاس قلعة المالوف

لغة عجيبة وممتعة، لسماعها وقع الترياق على النفس الواهنة و لها تأثير البلسم على النفس البشرية فتحمل المستمع

الى عوالم تنتفي فيها الحدود الزمانية والمكانية وتجدك تراقص جميلات غرناطة وتستمتع بسحر القصر الاحمر رفيقتك الربابة بنغماتها الرقيقة رقة عاشقة وصديقة البزق والماندولية والعود لتحلم وتنتشي بخمرة الموسيقى المسكرة حدّ الثمالة العشقية.
هي لغة نوبة الحسين صبا ونوبة السيكا ونوبة الذيل ونوبة الاصبعين، مجموعة من «النوب» التي ميزت الموسيقى الكلاسيكية بالمغرب العربي موسيقى او نوب ممتعة هي عبارة عن توليفة موسيقية اطلق عليها اسم «المالوف» او «المألوف» توليفة للحب والجمال لها تاريخها في تونس وفي قاعة الاوبرا بمدينة الثقافة وضمن الفعاليات الثقافية للقمة العربية التي تحتضنها تونس كان اللقاء مع العرض الممتع «درر المالوف2» الذي يقدمه بيت المالوف التونسي.

اجتمعت «النوب» فكان العشق
تونس وطن الجمال والسحر، تونس التخليلة والشاشية الحمراء والفوطة والبلوزة تونس الاختلاف و الالوان التي تسحر العين وتخطف القلب، تونس الجميلة جسّدت في الملابس التقليدية التي تزينت بها فتيات جميلات وقفن في باب قاعة الاوبرا ومداخلها للترحيب بضيوف تونس من ممثلي الدول العربية بلباس تونسي اختلفت تسمياته وجهاته «الحمامي» و «التونسي» و«السوسي» وغيره ولكن اشترك في الجمال والاناقة اناقة هذا الوطن في استقبال ضيوفه.

تماهت كل مقومات الجمال، اربع عشرة كمنجة تأنقت لتكون مثل الاميرات تبعث البهجة في المكان، ثلاث الات عود توسطت الركح لتؤكد أنها سادة العرض وسادة المكان، آلتا تشيلو كانتا في الخلف مثل الملوك في الابّهة والسحر، الآلات الايقاعية هي الاخرى كانت عنوانا للتميز بنوتاتها المميزة، كلّ هذا الجمال اصطفّ ليقدم للجمهور عرضا تونسي الروح عالمي التوزيع يمسّ القلب ويسعد الروح.

على الركح أربعون عازفا ومنشدا همّ حرّاس المالوف والمدافعون عن الموسيقى التونسية، اجتمعوا ليقدموا للجمهور المتعطّش للسّماع درر المالوف التونسي، يتوسطهم الرائع ابدا زياد غرسة ذاك الطفل الذي نهل من مشارب المالوف من النعومة، وعشق هذا النوع الموسيقي وتشبّع به وهو ابن العظيم الطاهر غرسة فكبر الغصن وازهر فنانا مميزا حافظ على المالوف الذي ورثه وابدع فيه.

استفتاح بنوتات الكمنجات تبدأ بسرد الحكاية، نوتات هادئة رقيقة كانها تعبيرة عن صرخة اعجاب بغرناطة الساحرة، رفيقها العود هو الاخر يشاركها متعة التجوال مع خلفية مميزة ولعبة الضوء التي برع في قيافتها المخرج حسام الساحلي فتماهت الموسيقى مع الضوء وكانك في مجلس لولادة بنت المستكفي تستقبل فيه مبدعي الشعر والعزف في قصرها الرائع.
الموسيبقى تزداد جمالا وبعد استفتاح الكمنجات كان المصدر بـ»نوبة العراق» ثمّ دخول ابيات «الجابية والبير»، تزداد الكمنجات بهاء وموسيقاها تصبح الابرز قبل ان يقول الناي كلمته لتكون الموسيقى كما خمرة الحبّ التي يقولون فيها في دخول براول:

«خمرة الحبّ اسكرتني
تركتني يا صاح احمق
والشّمايل خلقتني
علّمتني كيف اعشق
عيني خفيق اشبقتني
لمّا نظرت المعيشق»

وفي قاعة الاوبرا خمرة الموسيقى أسكرت الجمهور المتعطّش إلى التذوق المزيد من النوب الساحرة والنوبة في المالوف التونسي تتكون من سبعة أجزاء يتم التدرج من خلالها من بداية النوبة إلى نهايتها وهي: الاستفتاح، المصدر، دخول الأبيات، البراول، لازمة الدرج، فارغة الخفيف، ثم الختم. ويعود الفضل في ترتيب النوبة بهذه الكيفية إلى «محمد الرشيد باي» وهو أحد بايات تونس الحسينيين الذين عاشوا بين 1710 و1759، وكان من الأدباء الشعراء والمولعين بالعزف والموسيقى والإنشاد، وكان له الفضل في جمع النوبة الأندلسية أو «المالوف التونسي» وحفظه واستخراج قواعده وتدريسها، لذلك سميت المدرسة الرشيدية على اسمه والتي تم بعثها سنة 1934 بتونس حسب الباحث علي الميلي .
في عرض «درر المالوف2» اختلفت النغماتّ، تدرجت في صناعة بساط المتعة للجمهور، نسق تصاعدي من الموسيقى لوحدها ثم الغناء، زياد غرسة وكامل المجموعة يتسلطنون ليبعثوا في الجمهور شحنة ايجابية من الحب، نوتات الالات الموسيقية فاحت كما العنبر والمسك ولان للموسيقى رائحة زكية ايضا تنعش النفس غنّى زياد غرسة نوبة «فاح العنبر»

الغزلية التي يقول مطلعها :
«نستقنع بشبحة العين (اقتنع برؤية العين) في الزين العربي الى كواني
هلال الى ظهر في ليلة اثنين في شهر نوره خشاني
فاح العنبر فاح يا ماذا يطيب بالمسك الفواح من ذاك السّخاب
فاح العنبر فاح والنسمة تهديه

فاح العنبر فاح والزين الوضاح، حفل المحضر بيه، فاح العنبر فاح يا للة الملاح قلبي ارفق بيه داويني نرتاح» .
ليكون العرض كما النسمة خفيف الروح زادت جمالية السينوغرافيا من بهائه، زياد غرسة امتع جمهوره ايضا ب»سودة قتالة» و «حبيبتي جات» و «يا نهار البارح» و «عزيز قلبك» لتزداد الموسيقى بهاء مع الاغاني التي يحفظها الجمهور التونسي «بالمياس» التي ختم بها درر المالوف في لقاء انتشى فيه الجمهور المحب للمالوف التونسي.

بيت المالوف: بيت للابداع وحماية الموسيقى من الاندثار
التاريخ جزء من الذاكرة ومن لا يعتز بتاريخه لن يستطيع بناء مستقبله، والمالوف جزء من الذاكرة الموسيقية التونسيه، له روّاده ومحبوه والمدافعون عنه، نمط موسيقي له قواعده وكلماته وموشحاته التي لا تخضع لموازين معينة.
ويعرّف المالوف انّه الموروث الغنائي بنصوصه الأدبية، وأوزانه الإيقاعية، ومقاماته الموسيقية التي ورثتها بلدان الشمال الأفريقي عن الأندلس، وطوّرتها، وهذّبتها، وتتكون مادتها النظميّة من الشعر والموشحات والآزجال، والدوبيت، والقوما، مع ما أُضيف لها من إضافات لحنيّة، أو نظميّة محليّة، جمعت بينها دائرة النغم والإيقاع، وما وقع استعارته من نصوص وألحان مشرقية. وتعتبر النوبة أهم قالب في المالوف..

ولان المالوف جزء مهم في الموسيقى التونسية انجز له بيت لحمايته والمحافظة عليه فـ«بيت المالوف التونسي» هو الذي قدم عرض درر المالوف، بيت المالوف فضاء لحماية المالوف التونسي من الاندثار وحراسة قلعته، للمالوف بيته يسعى الى احيائه وتوثيقه والترويج له بعرض شهري بالاضافة الى توثيق النوبات التونسية بكل مكوناتها واستكمال ما ينقصها من اجزاء مكونة لها كالزجل والفوندو والشغل والموشحات والبشارف والسماعيات عن طريق التسجيل السمعي كوسيلة للتوثيق كما يعمل البيت على نشر موسيقاه في «اقراص مضغوطة» لمزيد التعريف به اكثر وجلب فئات مختلفة من الجماهير.

للمالوف بيت يحميه ويبعد عن شرّ الاندثار و الموت، فالمالوف التونسي الذي توارثته الاجيال لازال محافظا على طابعه الاندلسي الاول ووفي له، اذ يوفر البيت ورشات ونواد وتدريبات لمختلف الاعمار مع تكوين الاساتذة والمعلمين في نمط الموسيقى الكلاسيكية ليضمن استمراريته ومقاومة كل اشكال التشويه.

وقد افتتح البيت نشاطه في جانفي 2019 ويشرف عليه عاشق المالوف الطفل الذي ورث هذا الفن عن والده، الفنان زياد غرسة الذي يقول عن انجاز البيت « لا شكّ ان بيت المالوف في مدينة الثقافة يمثّل حدثا هاما له اكثر من دلالة في سياق ثقافتنا الوطنية، انّا نرجو ان يكون له الاثر المميز في النهوض بتراثنا الموسيقي ذي الاصول الاندلسية ومن اولى معاني انشاء البيت الرغبة في ابراز قيمة التراث الذي طالما شكّل معلما هامّا لعلّه الاهم في تاريخ الموسيقى التونسية، مضيفا أنّ في منح االمالوف بيتا تاكيد لخصوصيته مما سيتيح لنا ظروفا افضل لتحقيق حضور مشرف في الساحة الثقافية».

ومن يقول المالوف التونسي حتما لن ينسى استحضار الرموز الثقافية التي صنعت هذا الفنّ وطورته في بلادنا على غرار الشيخ احمد الوافي المنحدر من عائلة اندلسية وكان اول اتصاله بالفن الموسيقي عن طريق والده الشيخ حميدة الذي كان ابرز منشدي المدائح النبوية، وقد تعلم احمد الوافي المالوف عن مجموعة من الفنانين في مقدمتهم عازف الرباب «برهيم تبسي» و«ساقسلي» وقد أصبح من أبرز رواة المالوف وعازفا بارعا على «الفحل» فجلبه البارون ديرلانجي إلى تونس كمرجع لتأليف الموسيقى العربية.

وقد تميز احمد الوافي ببراعته في ابراز مقام «الشاهناز» الشرقي وقد اعطاه اسم «انقلاب الاصبعين» وذلك في «البطايحي» «هجرتني يا خي» وقد ادخل نوع من التجديد على قطع النوبة ومن ابرز انتاجاته خفيف المزموم «الى حبيبي نترك اوطاني» وقد تميز في مقام «الحسين صبا» وقدم فيه موشح «اه يا لسمر يا سكري».

في العرض ايضا تستحضر الاغاني روح العلامة خميس الترنان وهو من ابرز الشخصيات الموسيقية التونسية خلال القرن التاسع عشر، وقد تميز بطابعه التجديدي واسلوبه المميز، اوّل الحانه كانت «يا لايمني يزيني ما صاب عينك عيني» واخرها «ليعتني بشد الهوى يا دوجة» التي ابدعت في غنائها الفنانة نعمة، وخميس الترنان العبقري كان يعزف اكثر من الة منها الناي و المندولة والعود التونسي فنان انطلق بالغناء الديني وتميز بعدها في الموشحات والمالوف، ومن ابرز تلاميذه الراحل الطاهر غرسة اذ لا يختلف اثنان في أن الفنان محمد الطّاهر غرسة الابن الروحي للشيخ خميّس الترنان قد أجازه أستاذه في حفظ نوبات المالوف كلّها بالنوطة الموسيقيّة لعميد الفنانين الموسيقار محمّد التريكي. أخذ الفنان الطّاهر غرسة عن شيخه خميّس الترنان تقنيات العزف على آلة العود التونسيّة التي تعرف اصطلاحا بالعود العربي لتمييزها عن العود الافرنجي وهي القيثارة. وبذلك ورث الطاهر غرسة عن شيخه جميع الرّوايات التراثيّة لنوبات المالوف والفوندوات فضلا عن إتقانه العزف على آلة العود التونسيّة.
ومن ثمّة فلا عجب في أن يتحفنا الطاهر غرسة بالعاطش أي النادر من المآثر التراثيّة في حفلات الرّشيديّة، ذلك الحصن الذي يرجع إليه الفضل في صيانة تراث تونس الفنّي من الضياع. وبفضل السّهرات العائليّة التي كان يحييها خميّس الترنان في بيت عائلة غرسة المجاور لسكناه عُرف الشيخ الطاهر غرسة بتفوّقه على بقيّة أترابه وأحرز ديبلوم الموسيقى سنة 1956. كما جاء في الموسوعة التونسية.

فالطاهر غرسة تلميذ العظيم خميس الترنان، وزياد غرسة هو وريث المجدد الطاهر غرسة، ورث غرسة الابن حبّ المالوف والابداع وهاهو يواصل مسيرة حراسة الموسيقى التونسية والدفاع عن هويتها أمام جماهير متعطّشة إلى الكلمة الحلوة واللحن الممتع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115