العرض الأول لمسرحية «راشامون» للطفي العكرمي ضمن مسرح الجهات: الحقيقة نسبية ...

الحقيقة والسراب، الحق والظلم، الكذب والصدق، الابيض و الأسود الخوف والشجاعة التدين و المماطلة ،

الفقر والجشع متناقضات عديدة تعالجها مسرحية «راشمون» للمخرج لطفي العكرمي، متناقضات يغوص فيها نص المسرحية ليفتتها ويقوم بتحليلها في محاولة للبحث عن الحقيقة لكن لا وجود لحقيقة مطلقة فلكل انسان وجهة نظر تختلف عن وجهة نظر غيره وتلك رسالة المسرحية.
«راشمون» مسرحية باللغة العربية الفصحى دراماتورجيا رياض السّمعلي جمعت بين السينما والمسرح من تمثيل كوثر بلحاج ونورهان بوزيان ووحيد مقديش وشهاب شبيل والياس العبيدي ونصيب البرهومي من انتاج شركة بنادم للانتاج والتوزيع الفني وسينوغرافيا واخراج للطفي العكرمي.

كلنا كاذب...جميعنا صادق
صوت للمطر ورياح تعصف، شخص بلباس الكهنوت يجلس القرفصاء يجمع أدباشه في صرّ صغير،وكأن عملية تجميع القياب تنبئ بنهاية فترة الكهنوت والدخول في مرحلة جديدة، الضوء اصفر يخفي اغلب ملامح الوجه كأننا بالمخرج يريد للمتفرج مزيد التركيز لاكتشاف تعابير وجه الممثل وقراءتها، صفرة الضوء كأنها ستار لمعرفة ما يخفيه فالضوء في المسرح من ادوات العمل وله دلالات متعددة.

الضوء يبدأ في الوضوح تدريجيا وصوت الرياح ينقص قليلا، وفجأة ستحول زاوية النظر الى الاعلى قليلا فهناك شاشة كبيرة تنقل مشهدا لجري احدهم وهو يلهث إلى حدّ الوصول الى الركح وكانّه جاء من الهناك الى الهنا، بعد هنيهة يعرف المتفرج انه امام حطاب (شهاب شبيل) جاء الى كاهن «راشمون» (وحيد مقديش) بعد ان سمع بخبر رحيله ، يدخلان في نقاش عن السواد والظلم والعنف والقتل الذي ساد مدينتهم، ظلم ومماطلة وتزييف للحقائق يعيشها المجتمع التونسي اليوم فالأحداث غير مسقطة وان كتبت قبل مائة عام وقليل فهي تعبّر عن واقع اليوم ايضا.

يتغير لون الضوء، تزداد حركات الممثلين اضطرابا، ترتفع الاصوات وكان هناك جلبة في الخارج، الضيف يبدو أنه شيخ أحدب يرتكز بيمناه الى عصا مغطاة بالشعر هو صانع الشعر المستعار (لطفي العكرمي)، أحدب ملابسه رثة، زرقة تعلو العينين وطريقة غريبة في الخطاب لكنه أكثرهم حكمة لأنه يؤمن أنّ ما حلّ «براشمون» من خراب سببه الظلام والفساد المنتشران في المكان ووسط السؤال والاجابة يسألهم عن جريمة قتل «الساموراي» في الغابة ومن هناك تبدأ الحكاية في استرجاع ما حدث في المحكمة وشهادة الشهود التي اختلفت إلى حدّ التناقض فكلهم صادق وجميعهم كاذب انطلاقا من نسبية الحقيقة واختلاف وجهات النظر التي عبرت عنها المسرحية باختلاف في الازياء وكيفية توزيع الضوء على الرّكح والماكياج وحتى طريقة الاداء فيها اختلاف مقصود لإبراز اختلافنا وان اشتركنا في الفكرة.

المزج بين السينما والمسرح
تعرّف السينوغرافيا بأنها هندسة الفضاء المسرحي، من خلال التوافق بين ما هو سمعي وهو بصري وحركي، وبالتالي جسد الممثل وديكور وإكسسوارات وماكياج وأزياء وتشكيل وصوت وإضاءة، فهي تعمل على تحويل النص الدرامي المجرّد إلى معادل بصري مُتكامل. وهو أمر ينتمي أكثر إلى لغة التشكيل، وعلاقتها بالفضاء المكاني «خشبة المسرح» فالاهتمام هنا ينصب على درامية الصورة المسرحية، حتى يتم نقل الشحنة العاطفية الكاملة، التي يحملها النص المكتوب إلى المُتلقي وفي مسرحية «راشمون» يغيّب الديكور لتكون اجساد الممثّلين وحركاتهم وتعابير الوجه وطريقة تغيير الصوت حسب الحكاية هي الديكور اما الضوء فجزء من الحكاية ففي تدرّجات الاصفر تتضح معالم القصة تدريجيا و الموسيقى ايضا كانت من وسائل تعريف المتفرج بحكاية «راشمون» وصراع الشخصيات و الافكار.

«و» راشومون» الاولى هي قصة قصيرة للكاتب الياباني «ريونوسكي أكوتاغاوا» الذي لقّب بأب القصة القصيرة اليابانية، صدرت في 1915 وكانت أول إصدار له، وألهمت الكثير من المخرجين في السينما والمسرح على غرار الراحل المنصف السويسي بالاشتغال عليها وتقديمها في الكثير من الأعمال التي حافظت في مجملها على العنوان الأصلي للقصة القصيرة «راشومون».

لكن «لطفي العكرمي» لم يستوح فقط عمله المسرحي من القصة ذائعة الصيت بل استند في اقباسه إلى فيلم «راشومون» للمخرج الياباني «أكيرا كوروساوا» الذي قدمه سنة 1950 ويعتبره النقاد الفيلم الذي جلب الانتباه العالمي نحو السينما اليابانية بعد فوزه بأسد البندقية السينمائي وترشيحه في فئة أوسكار أفضل فيلم أجنبي ولذلك جاءت المسرحية مشعبة بالتقنيات السينمائية والمؤثرات الفرجوية مع حضور الفعل المسرحي والحبكة الدرامية وفي توظيفها لكلا الفنين السابع والرابع حاول لطفي العكرمي المخرج وكامل الفريق التجديد في التعامل مع النص المكتوب منذ مائة عام ليعبّر عن واقع اليوم.

الشخصيات وصراع الحقيقة
قسّمت مسرحية راشمون الى مجموعة من المشاهد وقامت على الاسترجاع، ففي الهنا الكاهن والحطاب و الاحدب عابر السبيل صانع الشعر المستعار، ثلاثتهم يسترجعون تفاصيل جريمة قتل الساموراي «كانازاوا تاكيهيكو» الذي جسد دوره الممثل الياس العبيدي والساموراي قتل في الغابة والكل يعتقد ان قاطع الطريق «تاجامارو» (نصيب البرهومي) هو القاتل حينها ينسحب المتحدثون الى الخلف ويدخل الى الركح احدهم مكبلا بالقيود و السلاسل و في الشاشة يعرض مشهد لاستلقاء تاجومارو على احدى الاشجار ومشاهدته للساموراي وزوجته ماساغوا (كوثر بلحاج) يمران من الغابة فيقف ويواجهه ثم يقيده لينال من زوجته (انا اعجز أمام دفء النساء) ويغادر فالحقيقة الاولى انّ قاطع الطريق هو القاتل، ثم يعودون من جديد الى الركح ويزيد عابر السبيل من الالحاح فيسترجعون حكاية الام وحديثها عن ابنتها وكيف اخبرتها انها اغتصبت امام انظار زوجها ثم وجدته مقتولا ، ثمّ ينادون الساحرة لتحضّر روح الساموراي الذي يخرج الى الركح بلباس الساموراي وفي الشاشة مقاطع لعراكه مع قاطع الطريق وانهزامه في المعركة وجسد ثالث غير زوجته وقاطع الطريق ينهال على

جسده بالسيف، فالمشاهد امام حكايات مختلفة كلّ تقدم حقيقة متباينة، الى انّ يلحّ الاحدب على الحطاب ويحاصره بالاسئلة فيقدم رواية اخرى مختلفة مفادها ان الزوج كان مقيدا والزوجة لم تغتصب وانما كانت مع تاجومارو بكل ارادتها حقيقة اخرى ورواية رابعة تخالف سابقاتها، لكل حقيقة مقوماتها المسرحية و طريقة اداء مختلفة، لكل ممثل طريقته في اقناع المشاهد اتحدوا جميعهم ليقدموا للجمهور عملا يجمع تقنيات السينما بالفن الرابع في رحلة الصراع والبحث عن الحقيقة لينتهي العمل السوداوي برسالة امل مع بكاء الوليد وكأنه لحظة الاعلان عن ميلاد جديد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115