في بعض شؤون الثقافة: الصَّمْتُ..

جاء في قصّة قصيرة لنافلة ذهب، عُنوانُها «الصمت»، أُحبُّها كثيرا، القصّة ونافلة أيضاً، أنّ امرأةً ورجلاً يَعيشان

زوجيْن في بَيت تُكوّنه غُرفةٌ يَتيمة. كان يَخرجُ كلَّ صَباح للعمل، وتَبقى في البَيتِ الغُرفةِ تَقضي شُؤونَ البيت. فتُغيّر مَواضعَ الأشياء. والأشياء قليلة، فيَظهرُ التغيير، ويَتّخذُ السريرُ كلّ يَوم مَوضعاً جديداً. وتَشعرُ بالتغيير. ويَعودُ الزوجُ مَساءً فيَشعرُ بالتغيير. كُلّ شيء يَتغيّر في البَيتِ الغُرفةِ، وتُخيّمُ السعادةُ رغم الفَقر والحاجة.

تَقومُ هذه القصّةُ الجَميلةُ مثالاً أنموذَجاً على قصّة وزارة الشؤون الثقافية. فوزارةُ الشؤون الثقافية صَغيرةٌ صِغَرَ البَيتِ الغُرفةِ في القصّة. ووزارةُ الشؤون الثقافية تَدّعي الفقرَ والحاجةَ وكان الواقعُ في البَيتِ الغُرفةِ فَقراً وحاجةً. ووزارةُ الشؤون الثقافية، وهذا الأهمُّ والأبقى وما كَرّسه الوزراءُ على مَرّ السنين، تُغيّر مَواضعَ الأشياء فيَشعرُ الوزراء بالتغيير، ويتقمّصونَ أدوار المُغيّرين، ويَبنونَ خطاباً في التغيير.

ومثلما كانت الزوجة في القصّة تُغيّر وَجهَ البَيتِ الغُرفةِ فيَظهرُ آخرَ، كانت الوزارة تُغيّرُ اسمها ولا تَستقرُّ على تَسميّة: وزارة الشؤون الثقافية أو وزارة الثقافة أو وزارة الشؤون الثقافية والمحافظة على التراث وقد تُزاد إليها المتاحف أو الشباب وهلمّ جرّا. وكانت الوزارة تُضطرُّ في كلّ مرّة إلى تغيير لافتاتها والأوراق التي تحمل اسمها وخَواتيم المسؤولين الساميين وغير الساميين والرخامات على واجهات الوزارة والإدارات المركزية والجهوية والمحلّية. ولا أحدَ يَنظرُ إلى تكاليف التغيير في كلّ مَرّة. فتَغييرُ الاسم سمةٌ قارةٌ في السياسة، والتكاليفُ مُجرّدُ تكاليف على كاهل المواطنين.

ومثلما كانت الزوجة في القصّة تُغيّر مَوضعَ السرير فتَشعرُ وبَعلُها وقد سَكن إليها أنّ السَّكنَ أصبحَ آخرَ، كان الوزراء عندما يُسمّون وزراء يُغيّرون مَوضعَ المكتب حيثُ يَضطلعون بمهامّ العمل، ويُغيّرون بموجب ذلك مَوضعَ أرائك الجلوس حيثُ يَضطلعون بمهامّ الاستقبال. فكان هذا الوزير يَجلسُ أمام الداخل عليه، وذلك على يمين الداخل في الضفّة الغربية، والآخر على يساره في الضفّة الشرقية، والرابع في الجنوب. وتتغيّر وفقَ ذلك أرائك الجلوس. ويَشعرُ الوزير وقد غَيّر مَواضعَ الأشياء أنّه آخرُ. أنّه مُختلفٌ عن الوزير قبله. والقاعةُ هي القاعة. والأثاثُ هو الأثاثُ إلاّ مَنْ كان جريئاً وغَيّر الأثاثَ، وهذا لا يتمّ إلاّ أحياناً.

ثمّ يبدأ الخطاب. خطاب كلّ وزير. واسمحوا أنْ نُفارقَ الآنَ القصّةَ الجميلةَ حتّى لا يُصيبَها التحريف. فالقصّةُ إبداعٌ طَريفٌ وفق مناهج الإبداع الطريف، أمّا الخطاب فنفاقٌ لا يَخضعُ إلى الترتيب ولا مَنهجَ له غير المُخاتلة وصَوغ الكلام الذي لا يُفيد. وهذه شهادة شاهد من الدار.

لقد سُعدتُ بالاضطلاع بوظائفَ في هذه الوزارة بتسمياتها المختلفة. وخَبرتُها وإنْ بصفة مُتقطّعة، رغم تَستّر الوزراء وعدم استقرار الخطاب والافتقار إلى سياسة واضحة. وما أقوله لا يَهمُّ وزيراً بعينه بل يَتطرّقُ إلى الوزراء بوصفهم وزراء لا ذوات وأشخاصاً. فوَظيفةُ الوزير هي المَعنية بالمقال لا السيد فلان الذي أصبح الوزير.

من العناصر القارّة المكوّنة لخطاب كلّ وزير نَفيُ ما كان وتَقديسُ ما سيكون. فخطابُ الوزير صَيحةُ فَزع أمام المثقّفين حتّى يَعلموا ألاّ شَيءَ كان قبلَ تَولّيه المهامّ. لا وجود لسياسة ثقافيّة قبله. لا وجود لقوانين في توزيع المنح والتشجيع والدعم والشراءات والمهرجانات والصرف. لا وجودَ لصندوق اجتماعيّ للمُثقّفين. لا وجود لرعاية للمعوزين. وخطابُ الوزير آفاقٌ مَفتوحةٌ للمثقّفين على المستقبل الزاهي بالرفاه والسعادة والبنين، وتَعهُّدٌ على الملإ بالتغيير لِما فيه صالحُ المثقّفين، وبتغيير القوانين.

ذلك هو المشروعُ. أمّا المُنجَزُ فلا شَيءَ تَغيّرَ.
لم تَتغيّر في الثقافة القوانين. لم يتغيّر الدعم الذي أقضّ مَضاجع الوزراء وتكلّم فيه المتكلّمون من المثقّفين وأشباه المثقّفين والصحافيين والإعلاميين وأشباه ذلك كَثير. لم تَتغيّر المنحُ المختلفة والشراءاتُ والتشجيعُ والمهرجاناتُ وصرفُ الميزانية. ظلّت الأشياء كما كانت الأشياءُ. لم يَتغيّر النظامُ الذي يَعتمد الولاءَ في التسميات وتَكريمَ المصفّقين المناشدين. لم يَتغيّر المنهج الذي يقوم على البهرج والزينة والتدشين والإشادة بالمئات أو الآلاف من المكتبات والفضاءات والمهرجانات والاحتفالات بالأيّام القرطاجيّة التي يَعجزُ الوزير عن ذكرها لكثرتها.

ومن العناصر القارّة المكوّنة لخطاب الوزير بعد مدّة من تولّيه الوزارة، قَصيرةً كانت أو طَويلةً، إذا كُتبَ له أنْ يدومَ، اعتقادهُ الراسخُ، أو ما يُوهم بذلك، في أنّه بصدد تَغيير الثقافة والمُثقّفين. وإصرارُه الشديدُ، أو ما يُوهم بذلك، على تمرير خطاب اليقين والعمل الجيّد الرصين. وإيهامُه بأنّ المثقّفين اليوم يُبدعون ويَنشطون أكثر من ذي قبل، وأنّ الإدارات اليوم حَديثة مُرقّمةٌ. وتَقوّلُه في أنّ الوزارةَ لم تَعرفْ قبله الإحصاء ولا التقييمَ ولا التنشيطَ ولا الاهتمام بالعمل وفق القانون، رغم أنّه قد ساهم مُنذُ ثلاثين سنة أو تَزيد، في هذا العهد السعيد أو ذاك العهد الجديد، مديراً أو مديراً عاما أو مديرَ مَهرجان كبير، في الثقافة التي يَسبُّ ويَشتم. إذا لمْ تَستحِ فافعلْ ما شئتَ!
وزارةُ الشؤون الثقافية وزارةُ الخطاب ليس غيرُ. والخطابُ ليس مشروعاً يُصبحُ مُنجزاً، ولا هو سياسةٌ ثَقافيّةٌ يَتميّزُ بها الوزير. الخطابُ ذَرُّ الرماد في العيون، ليَتَوهّمَ الوزيرُ أنّ العيون لا تُبصرُ مَساوئَ الثقافة والوزير.

أنْظر إلى المَعالم والآثار، في بلاريجيا أو سبيطلة أو الكاف. انظرها في القيروان. انظرها في كركوان أو في برج قليبية الشهير. انظرها في سوسة أو الجمّ أو المنستير. انظرها في قفصة وكلّ أنحاء الجنوب وفي القصور ومساكن البرابرة القديمة. انظرها في أوذنة البديعة وفي الحنايا إلى زغوان، هنا قريباً من وزارة الوزير. انظرها في كلّ مكان في البلاد، والبلاد كلّها تزخرُ آثاراً. لا شيءَ غيرُ الدمار. هنا تَرعى الماشية وتُسرق التحف وتُنهب القبور وتُنقلُ الحجارة لُتُبنى بها الديار، على مَسمع ومَرأى من الجميع، إلاّ سيادة الوزير ومعهد الآثار. ويُوهمونا بالترميم. ولا ترميمَ. مُجرّد أكياس من الاسمنت وعملة من الحضائر يستعملون الاسمنت في طلاء الجدران التي لا تَقبلُ ذلك الطلاء. ماذا تُفيدُ ساحاتُ الفنون والمُدنُ المزعومةُ في ظلّ انتهاك حُرمة المعالم والآثار؟

وماذا تُفيدُ الأعدادُ والإحصاء والإشادة بالإعلامية والرقمنة، والمَكتبةُ العموميةُ في حَيّنا لا رقمنةَ فيها ولا فهارسَ بالموضوعات أو الأعلام، والمكتبيّةُ التي طلبتُ منها كتاباً قالت لي: إنْ شئت الكتاب فابحث عنه في الرفوف. ضَيّعتُ عشيّة يومي ولم أجد الكتاب. وقالت لزميلها الذي كان يلعب بهاتفه الجوّال الذكيّ أنْ يَذهبَ للصلاة فقد حان وقتُ الصلاة. ثم خَرجت لتجلسَ مع صديقتها في الشمس. أنا شاهد على هذا وأبقى شاهداً.

لا وَظيفةَ لخطاب الوزير في ظلّ سوء الحال إلاّ الإشادةُ بمن سَمّاه وزيراً، السيد الرئيس في ما مضى، والسيد رئيس الحكومة في العهد المبارك الجديد. خطابٌ يقوم على المناشدة وتَكريس الحملة الانتخابية قبل الأوان لصالح السيد الرئيس أو رئيس الحكومة.
الثقافةُ يَصنعُها المُثقّفون!

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115