معرض لرفاه الغرسلاوي في المكتبة الوطنية حين يبعث الرسام الحياة في الشخصيات الورقية

الريشة الحلم، الريشة اداة للسفر في عمق الذاكرة ودغدغة الفكرة، الريشة تكون صوت الحكمة واللون يصبح المثل و القصة،

والمحمل يبيت وسيلة للرحيل في عالم ممتع وساحر، عالم ابدع في وصفه ابن المقفع وهاهي مبدعة تونسية عاشقة للفن التشكيلي تحاكي امتاعه وابداعه وبريشتها وشغفها بما كتب تحمل محبي اللوحات والألوان الى عالم «كليلة ودمنة».
رحلة مختلفة وممتعة، رحلة مطيتها الريشة الى عالم الادب والكتابة باللون وحركة الضوء ما قاله بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك، رحلة باللون في عمق ذاكرة الادب العربي ومحاكاة لما كتبه ابن المقفع في رائعته كليلة ودمنة ابدعت فيها الرسامة رفاه غرسلاوي في معرض تشكيلي سمته «كليلة ودمنة وآخرين..» معرض يقدم في المكتبة الوطنية في رحاب الكتب يكون الرحيل مع الفن التشكيلي.

من الكتاب الى اللوحة: تمعنوا قبل الحكم
تنطلق الرحلة من «الحلم» فالحلم بالنجاح والسعي الى تحقيقه وحلم الابداع الذي سكن فنانتنا كان بوابة البداية لتبدع، و»الحلم» هو اول اللوحات التي تعترض الزائر في معرض رفاه الغرسلاوي، لوحة تتوسطها شجرة بنية اللون متماسكة الجذع متفرعة الاغصان بنية اللون لون يرمز الى الارض والانتماء وكأننا بالفنانة تعلن منذ البدء اعتزازها بهذه الأرض اسفل الجذع جسد امرأة رسمت باللون الزهري يقترب الى البياض نصف الجسد تحت الاغصان والباقي يمزقه، تعبيرة عن القوة وقدرة المرأة على تحطيم كل القيود متى حلمت وأرادت النجاح، اللوحة الاولى «الحلم» ستكون مدخلك إلى إعادة اكتشاف سحر «كليلة ودمنة» بريشة حالمة تونسية اسمها رفاه غرسلاوي.

شجرة مجوفة، الوان تتدرج من البطاطي الى البني الغامق مع مساحات ضوئية تتوسط الشجرة، القليل من الاحمر على الجانبين، أربع شخصيات تبدو كانها تسبح في فلك تلك الشجرة، واستعمال الأحمر هنا يرمز الى الخيانة والكذب فاسم اللوحة «مثل الخب والمغفل: الشجرة الجوفاء» تلك الحكاية التي يسرق فيها الخب امواله والمغفل ثم يشكوه الى القاضي ويطلب منه شهادة الشجرة وهو يعلم انها جوفاء ويمكن لوالده الاختباء داخلها والإجابة كان الشجرة صاحبة الكلمات، منذ اللوحة الثانية تحملك رفاه الى حكم وأمثال كليلة ودمنة التي احبتها وأرادت اعادة صياغتها في الفن التشكيلي.

من الخيانة الى الخبث مع لوحة اسمها «الاسد يقتل شتربة» لوحة تجسد فيها الفنانة قصة اغتيال الاسد الملك لوزيره الثور شتربة بعد مكائد ودسائس من دمنة الذي افسد صداقتهما وافسد الحكم، لوحة ميزتها اللون الاخضر وهو الاحالة على الغابة الفضاء المكاني للحدث ورأس لثور ينزف دما وجسد آخر يحمل بيديه راس أسد كناية عن الملك، لوحة لها اكثر من تحليل وأكثر من قراءة حاولت الفنانة أن تقدم تفاصيل الحكاية بقراءتها الخاصة وكأنها تدعو المتفرج إلى مزيد من الحكمة عند الغضب.

عالم كليلة ودمنة غني بالحكم والمآثر، اقوال بيدبا وهو يحادث دبلشيم ناصحا اياه بالحكمة وعدم التدخل في شؤون الاخرين كما مثل «الناسك واللص وامرأة الاسكافي» التي رسمتها الفنانة بخلفية حمراء قاتمة كانها الدماء تملا اللوحة والفكرة، يتوسطها جسد بلباس بني الللون وفوق رأسه الثعلب والوعلان وحوله بقية شخوص الحكاية، ويحيط باللوحة اطار اسود اللون زادها بهاء. الاحمر يدعو إلى التفكير والوقوف طويلا قبل اطلاق زفرة وقول ما قاله بيدبا «قام الناسك فتقدم إلى القاضي وقال له: لا يشتبهنّ عليك أيها القاضي، فإن اللص ليس هو من سرقني، وإن الثعلب ليس الوعلان قتلاه، وإن الأرملة ليس السم قتلها، وإن امرأة الحجام ليس زوجها جدعها، بل نحن جميعاً فعلنا ذلك بأنفسنا».
عالم كليلة ودمنة بكل مغامراته تنقله الفنانة ببراعة بالرسم الزيتي على mdfالذي اختارته الفنانة محملا لرسوماتها التي تبدو كانها مرسومة بتقنية 3D وليست حفر في mdf ومن ثمة الرسم، عالم كليلة ودمنة يغوص في الذاكرة، تذكر معه الفنانة قصصا قرأناه وربما اغلبنا نسي تفاصيلها وباللوحة تصالح الانسان مع الكتاب فكل من يدخل الى المعرض سيفتح ابواب البحث عن «كليلة ودمنة» ويعيد قراءة الكتاب لتصبح اللوحة هنا محملا للتوثيق والبحث أيضا فهي ليست مجرد رسومات وألوان زيتية تضعها الفنانة كما تشاء بل رسالة ادبية وإنسانية للتصالح مع ادبنا و مزيد التمعن فيما نقرأ والاستفادة من تلك الحكم فـ»الأدب يجلو العقل كما يجلو الودك النار ويزيدها ضوءاً” كما يقول ابن المقفع في مؤلفه الفريد.

الكتابة تاريخ واللوحة تأريخ
الكتابة فعل انساني متمرد، الكتابة تجميع للفكرة والإرادة وولادة عسيرة لكلمات ترهق كاتبها وقارءها، اما الرسم فحلم يتشكل تدريجيا ليولد منيرا بهيا مزدانا بأجمل الألوان ومن عالم الكتاب اقتبست رفاه الغرسلاوي اعمالها، من عالم الكلمة الموجعة والحكمة الصادقة انبثق المعرض الذي دامت فترة انجازه ثلاثة اعوام من القراءة و السهر والتمعن في الكلمات وقراءة

ما بين السطور لانجاز لوحات مختلفة تحاكي الكتاب وتنقل جزئياته الى المتأمل في اللوحة وفي الوقت ذاته ينقل مدى صدق الرسامة وحرفيتها في التعامل مع الاثر المكتوب.
من يقول كليلة ودمنة حتما يعود الى بداية الكتاب او اسباب كتابته، سيقف طويلا امام اللّوحة، ستشدك الالوان المختلفة والأشكـــال المتداخلـة والوجــوه الغائبة، حتما ستتساءل اهي الحرب؟ ام معركة ام قصص مختلفة شكلتها الرسامة في فضاء مكاني واحد، أبرز الالوان الأحمر حمرة الدم والخوف والحكمة مع اللون البنيّ بتدرجاته لون الرهبة والتمسك بالأرض وربما الدهشة من جحافل العدو، لوحة تتشابك فيها الايدي مع الأسلحة دقيقة كأنك تشاهد فيلما سينمائيا توثيقيا لمعركة ما، ابدعت في كتابة الجزئيات لنقل معركة «اسكندر ذو القرنين» في بلاد الهند، لوحة استغرقت من عمر الفنانة عاما من التشكيل والتفكير والولادة، عام من الرسم ومواجهة اللون ومخاصمته حينا وربما الحديث الى اسكندر ذي القرنين ومخاطبة دبشليم الملك واستماع إلى كلمات بيدبا، معركة على اللوحة تعكس معركة داخلية دامت عاما كاملا قبل ولادته لتأريخ قصة ذكرها الكتاب وأبدعت رفاه الغرسلاوي في اعادة تشكيلها.

بين النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة زمن ترجمة كليلة ودمنة الى العربية الى اليوم سنوات طويلة، سنوات تجاوزتها رفاه الغرسلاوي وهي تضع امامها كليلة ودمنة وتكتبه كما تراه، في المعرض تركز الرسامة على الحكم عادة فهاهي لوحة مجزأة على سبعة اشخاص، احدها هيكل عظمي واخر موشى بالدم وثالث نحيل، اسم اللوحة «سبعة اشياء مكروهة» وتحتها كتب ما قاله ايلاذ للملك بلاذ « « سبعة أشياء مكروهة: الشيخوخة التي تسلب الشباب والبقاء، والوجع الذي يُنحل الجسم ويُنزف الدم، والغضب الذي يُفسد علم العلماء وحكم الحكماء، والهمّ الذي يُنقص العقل ويسل الجسم، والبرد الذي يضرُّ، والجوع والعطش اللذان يجهدان كل شيءٍ ويخزيانه، والموت الذي يُفسد جميع البشر» وبعد مرور آلاف الاعوام لازالت الحكمة راسخة وكأنها حقيقة لا تؤثر في صدقها السنون.

بين الامس واليوم بون شاسع في السنين، ظروف كتابة «كليلة ودمنة» تختلف عن عصرنا الحالي، ابن المقفع بفكره يختلف عن رفاه الغرسلي، دبشليم الملك انذاك ليس له نظير اليوم، لكن وان اختلف الزمن فلازال هناك الكثير من المواعظ والأحداث التي تقارب ما نعيشه اليوم، احداث رسمت بدقة في لوحة الرسامة الحالمة، فلوحة «الأسد يقتل شتربة» بسبب الدسائس لازال الى اليوم يقتل الكثيرون بتهمة الخيانة دون دليل واحد، اما «ايلاذ وبلاذ ووايراخت» فلازالت هناك اوطان تدمر وأحلام تجهض بسبب طمع السلطان في مزيد من السلطة.

اختلفت الازمان والشخصيات، لكن لازلنا نحتاج إلى ذكاء «الارنب فيروز» أمام جبروت الفيل، فالذكاء لا يرتبط بالحجم بل بالحيلة «قال دمنة: لا تنظرن إلى صغري وضعفي، فإن الأمور ليست تجري على القوة والشدة والضعف. وكم من صغير ضعيف قد بلغ بحيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه الأسد».
لازلنا نستحق قوة «الرجل والتنين» لمواجهة قضايا العصر، فان اختلف الزمن والأشخاص تظل الدسائس السياسية ميزة كل زمان، ويظل بؤس الحاكم في تعامله مع المحكوم ميزة كل العصور ويظل الاديب والمفكر والفنان نبراس الضياء والذي يشع املا ينسي .

من الكتاب الى اللوحة تحولت الشخصيات الى كائنات تقرب اكثر الى الحقيقة، كل الشخصيات التي عايشناها في طريقة سردية ممتعة لابن المقفع نلامسها امامنا في مساحات لونية وضوئية ممتعة تقدمها رفاه الغرسلاوي، الشخصيات التي نهضت من سباب الورق وبعثت فيها الفنانة روحها على اللوحة جميعها دون ملامح فبإمكان أي زائر وضع الملامح التي يريد اذ تترك له حرية اختيار ملامح الوجه وتفاصيله كاختلافه في قراءة الكتاب وتحليله عن غيره.

من الادب العربي الى التونسي
عشقت الرسم منذ النعومة «والدي شجعني منذ الصغر ولازال يحتفظ لي برسمة رسمتها في عمر الثلاثة اعوام، اما والدتي فكانت تقص من شعرها لتصنع لي فرشاة حقيقية لأرسم بكل دقّة» هكذا انطلقت قصتها مع الرسم وعشق اللون والحركة الخطية، فالرسم «هوايتي وكل حياتي معه اشعر بالولادة المتجددة» كما تقول اما لوحاتها فهم «وليداتي أحادثهم وأشعر بنبض الحياة فيهم» .

مبدعة اختارت الادب لتكون مختلفة، وأشارت رفاه غرسلاوي انها انطلقت من كليلة ودمنة بغاية دفع كل من يشاهد اللوحات إلى إعادة قراءة الكتاب، وفي ذلك مصالحة مع الكتاب وموروثنا العربي مضيفة ان هناك الكثير من الرسامين العالميين يستلهمون ابداعاتهم من الادب العربي فلماذا لا نفعل ذلك؟ على حد تعبيرها.

وبعد تجربة كليلة ودمنة التي استغرقت ثلاثة اعوام من الرسم اشارت محدثتنا ان التجربة القادمة ستكون تونسية وتنطلق اما من الادب التونسي او الذاكرة الجماعية منوهة الى لوحة رسمتها في جرجيس للمرأة الرجل»قمودي جبنون» التي حاربت الباي عام 1790 وظلت قصتها اسطورة للقوة يعرفها فقط ابناء الجهة والعبرة انه بالرسم يمكن التعريف بالعديد من الابطال والشخصيات الفاعلة التي تناستها الكتب لان الرسم اعادة احياء وبعث للحياة في كل ما هو منسي، واشارت الفنانة إلي أنها بصدد خوض تجربة الرسم على اللوح بعد mdf في اطار رغبتها في التجديد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115