قراءة في كتاب: «سيرة الطيب ولد هنية» للطيب الجوادي قاوم وأحلم وأكتب حلمك برصاص التحدي

سيرة تختلف عن بقية السير، كتابة ممزوجة باليتم والفقدان، كتاب ولد من رحم وجيعة فقدان الطيب الجوادي لوالدته،

كان يكتب كتابا آخر أحداثه خيالية وشخصياته كذلك لكن وفاة امه هنية قلب جميع الاحداث ودفعه ليسرد سيرته مع والدته هنية «حكايتنا معا ستضمها دفة كتاب، يا هنية قبل رحيلك بيوم واحد كنت بصدد إتمام رواية متخيلة، وبعد رحيلك تركت كل شيء للنسيان، ورحت اكتب عنك، رحت اسجّل تفاصيل عمر استثنائي» كما يقول الكاتب في تقديم كتابه.
كتاب لاقى رواجا كبيرا، صدر عن دار زينب للنشر في 252 صفحة، سيرة ذاتية مليئة بالشجن والوجيعة والقوة والتحدي، سيرة يمكن تدريسها للاطفال ليتمسكوا بالتحدي والنجاح، سيرة نقدية للدولة التونسية وتوثيقية لحياة الريف ومعاناة أبناء الريف.

• المرأة الام والوطن
كتاب يحمل القارئ الى الستينات تحديدا العام 1962 ليتتبع حكايات «طفل من الكاف» ولد في قرية ريفية بعيدة و»وحين بدأت ادرك ما يدور حولي، كان الفقر المدقع هو اول ما انفتحت عليه عيناي» (صفحة11)، في الكتاب تكون المراة والمكان هما قبس النور وعنوان البداية والختام، هنية ام الطيب الجوادي انموذج عن كل النساء الصادقات القويات، هنية البسيطة البدوية التي «لا تقرى لا تكتب، لكنها حريصة على نجاح ابنائها» ، «هنية التي تحزن دوما وتندم لضحكة تلقائية، هنية الحالمة والطموحة بنجاح ابنها تكون عنوانا لكل النساء القويات في هذا الوطن.

فهنية امراة ليست ككل النساء، عن مكان الولادة الذي كانت هنية رمزه يقول الطيب الجوادي « ولدت في قرية نائية،اغلب الظن انه لم يسمع بها علماء الجغرافيا، ولا علماء التاريخ، قرية ملقاة في زاوية مهجورة من هذا الكون» (صفحة10)، ويقول عن والدته « لم تكن هنية مجرد امّ، كانت عالمي كلّه، كانت معروفة في كل القرية بصلابتها وتشددها المفرط في كل ما يخص منظومة القيم المتعارف عليها وقتها، لا تقبل فيها تنازلا، وكان مطلوب منا نحن أبناءها أن نلتزم التزاما كاملا بضوابط مدونة السلوك» (صفحة13)، فهنية في الرواية سيدة المكان، هي سيدة الأحداث أيضا معها تنطلق الرواية من رحمها ولد الطيب الجوادي ومن لوعة فراقها ولدت الرواية مشحونة بالعديد من الأفكار التي تبدو مجرد سيرة شخصية لكن بتمعن الجمل و الفصول والصفحات تجدك امام كتاب مفتوح على فترة هامة من تاريخ البلاد فترة لازالت الدولة فيها حديثة الاستقلال ورغم ذلك تكون هنية الأم أنموذجا للمرأة المتحررة القادرة على تسيير شؤون البيت واتخاذ القرار»الحقيقة أن هنية كانت تعشق الحياة، لكن على طريقتها فالحياة لم تمنح امثالها في تلك السنين العجفاء، ما يكفي من فرح، هي التي كان مطلوبا منها ان تكون الأم والأب بعد أن هاجر أبي إلى ليبيا» (صفحة14).

فهنية الأم والوطن، هنيّة البسيطة آمنت بالتعليم وفي عام 1968 أرسلت ابنها إلى المدرسة «وكم كانت هنية بعيدة النظر، لم يكن احد في قريتنا الملقاة في اقاصي الريف يؤمن بجدوى العلم والتعليم، كان والدي مثل كل الآباء يرى أن طموحي يجب أن لا يتجاوز رعي الأغنام، لكن الوالدة قررت أن تسجلني في المدرسة الوحيدة دون ان تعلم احدا بهذا القرار» (صفحتي 16و17).

تتوالى مسيرة الطفل وتتواصل رحلة البحث في خبايا الذاكرة ليكشف عن سلاح استعملته جل الأمهات تقريبا لدفع الابناء للتميز وهو « كانت تؤمن ايمانا راسخا لا يتزعزع ان الشلاكة بوصبع هي الكفيلة وحدها بجعلنا ناجحين ومتفوقين وقادرين على مجابهة الحياة» (صفحة21).

يقدم لنا الطيب الجوادي صورة المراة المناضلة والكادحة المرأة القادرة على التضحية بقوتها لتعليم ابنها ويصف احد الأحداث ويقول « على ان الذهاب الى المدرسة كان يكلف هنية الكثير، ادخل عليها ذات يوم منخذلا: يمّة يمّة، سيدي قلي لازم تشري ادوات، غرست نظرها في المجهول، ثم اجابتني بنبرة ارعشها الحزن: ميسالش تونبيع السردوك،...لم اشأ ان اعكر صفوها واعلمها ان سيدي طلب منا ايضا اقتناء كرطابة ومنديلة لان ذلك كان كفيلا بان يضطرها لبيع خروف العيد او شنشانتها الفضة»(صفحة25)، او يضطرها للكذب على العمدة حين سالها «ولدك نجح في السيزيام وماجبتيش ليا المبروك» ولرغبتها الملحة في الحصول على شهادة فقر ليكمل التلميذ دراسته كذبت واجابت «واسقط في يد هنية واقسمت له انها تعمدت الامر في انتظار ان تسمن له دندونة على كيف كيفو» (صفحة69).
هنية في الكتاب لم تكن امرأة عادية، هي رمز لكل النساء الكادحات، امرأة خلقت من نور وابتسامة، امرأة قاومت الفقر والجوع والبعد وامنت بالعلم ليصبح ابنها اليوم كاتبا يحقق كتابه مبيعات جد محترمة ويلقى رواجا عند محبي اسلوبه البسيط واللذيذ.

• لك ان تحلم وستنجح حتما
الطيب الجوادي طفل ولد في قرية نائية يصف لحظات الطفولة بالقول « كنا نسكن كوخا حقيرا مسقوفا بجذور الاشجار، وكان المنزل عبارة عن. غرفة واحدة لنومنا واكلنا وجلوسنا، على ان الفقر لم يكن أبدا مشكلا، فقد كان جميع اهل قريتنا فقراء مثلنا، وقد ادركت منذ سن مبكرة ان عليّ خوض معركة الحياة دون ان انتظر مساعدة من احد ودون ان احلم بشيء» (صفحات7و8).

الطفل الفقير استطاع النجاح والتميز ومواجهة الفقر والجوع بالقراءة والمدرسة، الطيب الجوادي ابن قرية منسية بين الجبال حقق ماعجز عنه كا ابناء القرية ودخل المدرسة ونجح وحلم وكبر معه الحلم.
وعن فكرة الدخول الى المدرسة يقول في الرواية «نزل علي الخبر مثل الصاعقة وحاولت إثنائها عن هذا القرار الغريب من خلال تذكيرها بان ذهابي الى المدرسة يتطلب ان يكون لدي حذاء على الاقل، ولكنها اجابتني البس صباط ابيك» (صفحة17).
مأساة الحذاء تتواصل مع الطفل قبل دخول المدرسة» سرعان ما اكتشفت انّي مخير بين أمرين: إما أن اذهب إلى المدرسة حافيا، أو البس حذاء ابي المهترئ ذي المقاس الذي يتجاوز الاربعين، وتدخل المنصف ولد عمي واقترح ان البس بوطه الشتوي القديم ومع اننا كنا في الفاتح من اكتوبر وكان الطقس شديد الحرارة، فلم يعارض احد فكرة المنصف ولد عمي العبقرية، اصلا لم يكن لنا خيار اخر» (صفحة18).

منذ البداية يضعك الكاتب في مواجهة بشاعة الواقع وقتامته إلى حدّ التساؤل هل سيتمكن الطفل من مواصلة الدراسة؟ هل سيصل الى السيزيام، ومع تصفح صفحات الكتاب سيخبرك عن عشقه للمدرسة ويقول «منذ وطئت قدماي المدرسة ذات البناء الحجري المتناسق بساحاتها التي يتوسطها العلم، اكتشفت بداخلي ظمأ غريبا للقراءة والاطلاع الذي ظل يلازمني كل سنين حياتي وما اسرع ما اتقنت الخطّ وما اسرع ما اصبحت قادرا على تهجي الحروف والكلمات بسهولة غريبة ثم قراءتها بيسر» ولكن هل سيقدر على مواصلة الحلم؟ سؤال يطرحه الطيب ويقول «هل يوجد حلم مستحيل؟ في قريتي الكافية النائية، في الستينات، كنا على درجة من الفقر والتخلف وانعدام ادنى مقومات الحياة لدرجة ان مجرد الحلم بالوصول للسيزيام يثير السخرية والشفقة» (صفحة102)، ليقدم الطفل درسا في المثابرة فهو الذي يمشي الكيلومترات الطويلة للوصول الى المدرسة وهو الذي ينهض منذ الخامسة فجرا لامتطاء حافلة الكاف والذهاب الى معهد القصور للدراسة والمبيت وهو الذي تحمل معاناة برد الكاف ومصاعبها.
ويتساءل عن الحلم «وبقي الحلم يتمدد، حتى نلت الاجازة، وهي لا تصدق ان ولدها الذي ولد وعاش في كوخ استطاع ان يشق طريقه وينال نصيبا من العلم لا يتفوق فيه عليه الا بورقيبة والباهي الادغم» (صفحة103).

في سيرة الطيب ولد هنية يقدم الكاتب أنموذجا عن الطفل والشاب المناضل والمؤمن بقدرته على النجاح والقادر على تحدي جميع مطبات الحياة ليصبح وعن اختيار استاذا ويدرس في دار المعلمين العليا «حلمي الدائم» (صفحة198) لكن الرغبة في النجاح كانت اقوى ودرس في مدرسة المعلمين العليا واصبح استاذا يدرس التلاميذ ويكتب نصوصا بلغة جد انيقة، ليكون الطفل الطيب الجوادي رسالة في التضحية والتمسك بتحقيق الحلم وان تمرّد.

• بين الستينات واليوم؟ نفس الحلم والوجع
تهميش ونسيان والم الشتاء هي ما يميز قرية الطفل الطيب الجوادي، احداث الرواية تعود الى فترة الستينات لكنها تتماهى مع الظروف الحالية التي تعيشها اغلب قرى الشمال الغربي، فبعد مرور سبعة وخمسين عاما على ولادة كاتب الرواية لازال الشتاء يخيف سكان الارياف في مرتفعات الشمال الغربي، الشتاء الذي يصفهه الجوادي بالقول «يزورنا الشتاء في ريفنا الكافي البعيد ومعه ملك الموت عزراوين، فالشتاء والموت رينان لا يفترقان في قرى وارياف الشمال الغربي الملقاة خارج الجغرافيا والتاريخ» (صفحة139) وفي السياق ذاته تقول عجوز تقطن في احدى مناطق عين دراهم الحدودية في تحقيق لبرنامج الحقائق الاربعة»الشتاء غول يخوف لولا الحطب نموتوا» فبعد67عاما ولازال الشتاء يخيفهم لقسوته وقسوة مروره وكان وجود الدولة صوريا في تلك المناطق المترامية بين الجبال.

في الكتاب ايضا اسئلة كثيرة عما تغير في قريته وفي عقلية ابناء منطقته وعقلية الساسة في تعاملهم مع ابناء القرى المنسية، فسبعة وستين عاما مرت ولازالو يعانون من فقدان الماء الصالح للشراب وفي الماضي «كنت اضطر مرة في الاسبوع ان اغسل وجهي من ماء النهر الذي نجبر على عبوره كي نصل الى المدرسة» واليوم يضطر الاهالي والاطفال لامتطاء الاحمرة والسير لكيلومترات لجلب الماء للشرب.

الطيب الطفل الذي لا يعرف معنى الدولة، الطفل المتميز يعجز عن الكتابة حين طلب منه معلمه نصا عن الدولة «الحقيقة انني حتى تلك اللحظة لم اكن اعي بوضوح دلالة الوطن، ودلالة أن أكون تونسيا، فباستثناء مدرستنا المتداعية للسقوط ومستوصفنا البدائي، لم يكن في قريتنا ما يثبت اننا تونسيون ومستقلون ولنا دولة ووطن بل لم يكن ثمة ما يثبت اننا مواطنون اصلا»(صفحة93).

سيرة ذاتية في طياتها نقد لاذع للسلطة والدولة، فمنذ ولادة الطفل الطيب الجوادي تراس تونس الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومحمد الغنوشي والمنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي ولازال حال القرية كما هو ولازال أبناء القرى الكافية يخافون برد الشتاء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115