القرن المنقضي ومع بداية تشكل النيو – ليبرالية الجديدة وثورة «الروبوتات» وثورة المعلوماتية والاتصالات لم تعد الكثير من تحاليل ماركس ولينين عن كيفية اشتغال الرأسمالية وعن كيفية الاستيلاء على السلطة السياسية تشفي غليل اليساريين . أو لسنا اليوم في ظل المتغيرات المعقدة والمتسارعة في حاجة الى الخروج من واقع تسييس الثقافة الى تثقيف السياسة والسياسيين ؟
عن كل هذه الأسئلة الحارقة وغيرها يجيب الدكتور الهادي التيمومي بكثير من التوسع والتفصيل في كتابه الجديد «اليسار العالمي الجديد امام تحديات الراهن» الصادر عن دار محمد علي الحامي بصفاقس في 180 صفحة تضمنت ثلاثة ابواب وهي ثورة أكتوبر البلشفية/ كيف يفكر اليسار الراديكالي العالمي اليوم ؟/ اليسار العربي والتونسي : اليس الصبح بقريب / ومجموعة من الفصول بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة وقائمة مختصرة في المراجع المعتمدة. يقول المؤلف « ان ما يثير الاعجاب بكبار اليساريين العالميين هو حماسهم التنظيري والعمل على تفكيك القناعات السائدة والبحث عما وراءها واستكشاف السبل غير المرتادة واقتراح الافكار الجديدة فهم يسعون الى بناء عالم اكثر عدالة وأكثر احتراما للطبيعة».
والمقصود باليساريين الراديكاليين ليس فقط الماركسيين بل طائفة من المفكرين المتأثرين بالماركسية وأيضا بالأفكار الاشتراكية الأخرى مثل الفوضوية او الاشتراكية الديمقراطية الجذرية أو بنظريات كانت تعتبر (مثالية) اما القاسم المشترك الذي يجمع بين كل اليساريين الراديكاليين في العالم اليوم هو أنهم يسعون الى الوقوف على الأسباب العميقة لما يرفضونه ويريدون
اجتثاثه كظاهرة الرأسمالية المعولمة والنيوليبرالية المتوحشة والثورة المعلوماتية و»الروبوتات» ذلك انهم يعارضون الأبعاد الأربعة لهذا الخليط (الكوكتي) الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي والثقافي .
لقد مثلت الثورة البلشفية عام 1917 (ودولتها في الاتحاد السوفياتي حتى عام 1991) المرجعية الام بالنسبة الى المفكرين والمناضلين اليساريين الراديكاليين فقد كانت الماركسية هي السبيل الوحيد نحو الحداثة عند الروس . هذه الثورة خلقت الأمل في عديد البلدان الأخرى ففي تونس تعاطف (معها) محمد علي الحامي ( مؤسس اول نقابة عمال وموظفين عام 1924) والطاهر الحداد كما اثرت هذه الثورة البلشفية في الشاعر المصري احمد شوقي وفي الشاعر العراقي معروف الرصافي الا ان عديد الانحرافات ادت تدريجيا الى الانهيار .. انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. ولكن اليوم عمقت «العولمة» التفاوت الاجتماعي داخل العامل المتقدم وخارجه فتكاثرت الاحتجاجات الاجتماعية في انحاء العالم وتفاقمت الهوة بين الاثرياء وغيرهم وتقلص دور المثقثف وعوضه الخبير (expert) والمدون على شبكات التواصل الاجتماعي (blogueur) وبرزت الفردانية وقضايا حقوق الانسان وعاد الى صدارة الأحداث الديني والمقدس - خاصة في العالم الاسلامي – وفي ظل كل هذه التحولات انكب المفكرون اليساريون الراديكاليون على مناقشة مصير الفكر اليساري الراديكالي في عالم اليوم وقد حصلت قناعة لدى اغلبهم بضرورة اعادة صياغة معمقة للفكر الاشتراكي حتى يواكب التحولات العالمية الجديدة خاصة انه في بداية هذه الالفية الثانية اصبحت الديناميكية العالمية قائمة على «عولمة» نيو – ليبرالية متوحشة قوامها التنافسية والانتاجية والتبادل الحر والمردودية والسلعنة وغيرها .. حيث اصبح القول الفصل لهيمنة المنطق الكمي ولتضاؤل القيم البشرية والثقافية النوعية ولعزلة الافراد ولتشظي الأواصر الاجتماعية ولتلاشي الشان السياسي ولاقتلاع البشر من مواطنهم وللاغتراب ولتدهور البيئة وللخطر النووي ولطوفان تكنولوجيا المعلومات ..
تحديات الراهن هذه كيف يتعامل معها اليساريون اليوم واين اليسار التونسي اليوم من كل هذا ..كل هذه المسائل يتناولها الدكتور الهادي التيمومي بكثير منن الشرح والتحليل والتفصيل الدقيق في كتابه الهام والمتميز «اليسار العالمي الجديد وتحديات الراهن».