في بعض شؤون الثقافة: الأَسَدُ وَوَزيرُهُ الحِمارُ...

وحيد السعفي
لعلّكم تساءلتم مثلي عن نصّ الأَسَدُ وَوَزيرُهُ الحِمارُ. ولعلّكم اعتبرتموه مثلي مبتوراً. إذْ لا يَصحُّ أنْ يَذكرَ الكاتبُ

المَلِكَ والوَزيرَ ولا يَذكرُ المستشارَ. وقد اقتضى الأمر أنْ يُعيّنَ الوزيرُ مستشاراً بمجرّد أنْ يُعيّنَه الملكُ وزيراً. لذلك نتساءل الآن: إذا كان الأسدُ قد عَيّنَ الحمارَ وزيراً فمنْ عيّن الوزيرُ مُستشاراً؟

وقد ألحّ عليَّ هذا السؤالُ. فعُدتُ إلى الكتب في الثقافة العربية الإسلامية أسألها الخبر اليقين. عدتُ إلى القديم منها والحديث. عُدتُ إلى الشعر فيها والنثر. ولكنّي لم أفزْ عندها بالخبر اليقين. وجدتُ أنّ العلماء الذين اهتمّوا بمسألة السلطة والسلطان، والخلافة والإمامة، تساءلوا عن المضمون في النص. تساءلوا عن الأسد مَنْ يكون. تساءلوا عن الحمار مَنْ يكون. تساءلوا عن الغاية من الكلام على لسان الحيوان. تساءلوا عن أصول النص. تساءلوا إنْ كان دخيلاً أم أصيلاً. تساءلوا عن كلّ شيء إلاّ عن المستشار مَنْ كان. وحتى مَنْ تفطّن منهم إلى شيء بشأن المستشار، استعمل التقيةَ وقال توريةً ما أراد أنْ يقول. فلم نفهم عليه ما أراد أنْ يقول. كانوا في زمانهم يخافون المستشارين، فتفادوا الحديثَ في المستشارين. والمستشارون كان بيدهم الحلُّ والربطُ والوشايةُ ونصبُ المشانق للمُعارضين. ولعلّهم مازالوا على تلك الحال حتى اليوم.

خيّب ظنّي العلماءُ في الثقافة العربية الإسلامية، فعُدتُ إلى العلماء في الثقافات الأجنبية، لاتينية وفرنسية وفارسية وهندية. ولم أفُزْ بالخبر إلاّ عند الهنود. والهندُ كان لها في كُلّ شيء المقامُ الأوّلُ. وكان لها السبق في الحديث على لسان الحيوان. وقد نقلتْ عنها الثقافاتُ، بما في ذلك الثقافة العربية الإسلامية، علومَها في الحيوان الناطق الحكيم. وَجدتُ عندهم ما غاب من القصة بشأن المستشار.

ورد النصّ في تلكم الأصول الهندية الحكيمة بعنوان، والترجمة هنا لنا: الأسدُ ووزيرُه الحمارُ ومستشاره الضَّبُعُ. ونظراً إلى أنّ القاعدة في اللغة تقتضي أنْ يعودَ الضميرُ على أقرب شيء منه فإنّ المقصود بالضمير في مستشاره يعود على الحمار الوزير. فتصبح الجملة إذنْ: الأسدُ ووزيره الحمارُ ومستتشارُ الوزيرِ الضَّبُعُ. وقد جاء في القصّة، والترجمة هنا لنا أيضاً، ما يلي:

قال دبشليم ملك الهند لبيدبا رأس فلاسفته: اضرب لي مثلَ الملك استوزر وزيراً فسمّى مستشاراً.
قال بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملِك: إنّ مثلَ الملِك استوزرَ وزيراً فسمّى مستشاراً كمثل الأسد والحمار والضَّبُع. فاشتاق الملك إلى القصّة، وأومأ برأسه إلى الفيلسوف. فواصل الفيلسوف: يُحكى يا مولاي، والله أعلم، أنّ مَلِكَ الغاب، الأسدَ الوقورَ، وقد أعياه السلطانُ وأثقل كاهلَه الإملاقُ، دعا المقرّبين منه إلى المشورة بشأن تعيين الوزير، فتبادلوا الرأي، وقالوا للأسد: لا أحدَ كالحمار يقدرُ أنْ يَنهضَ بالوزارة. فهو خاضعٌ مُطيعٌ. وهو صابرٌ صبرَ أيوب. وهو لا شيءَ يَخدشُ كرامتَه، إذْ لا كرامةَ له. وذكروا فيه من الخصال ما به اقتنعَ الملكُ فدعا الحمارَ في الحين وسمّاه وزيراً. فضربَ الحمارُ الساقَ بالساق شاكراً الأسد وعاد إلى زوجته الأتان يزفّ إليها الخبر، فسُرّتْ أيّما سرور وأمرته أنْ يُسمّي في الحين الضَّبُعَ مستشاراً، وكان لها، والله أعلم، علاقة بالضبع في الخفاء. فاستجاب لها الحمارُ وعيّنَ الضَّبُعَ مستشاراً.

مرّت الأيّام، على عادة الأيام، تَنشُرُ السرورَ في حاشية الأسد الملك احتفاءً بأعياده الكُثر. تَنشُرُ السرورَ في عائلة الحمار الوزير احتفاءً بارتقائه وزوجتِه الأتان إلى مَصَافّ السلاطين. تَنشُرُ السرورَ في عائلة الضَّبُعِ المستشار فترقص الضباعُ احتفاءً بمشاركتها في الحكم.
وجاءت أيام النحْس، أيامُ المحنةِ. شبّ في البلاد حريقٌ مجهول المصدر. اندلع في البلاد تشويش على الملك. خطب الخطباءُ في الساحات، يُحرّضون الجمهور على المسير إلى القصر وإسقاط الأسَد من على سدّة الحكم. كتب الكتّابُ كُتباً تصف الوضعَ الذي تدهور. نشرت المجلاّت والصحُف مقالات تُدين الظلم والقهرَ. وتكلّمت الإذاعات في الأمر بعد مدّة. ثمّ لحقت بها التلفزات فتكلّمت في الأمر. أصدر المثقّفون بياناً يُندّدون فيه بالسلطان ويُطالبون باستقالة الوزير الذي أهمل الثقافة. احتار الأسد وفوّض الأمر للحمار فاستدعى الحمارُ الضَّبُعَ. أليس الضَّبُعُ هو المستشار؟

لم يُفكّر الضَّبُعُ طويلاً قال: يا معالي الوزير، يجبُ قطعُ يد كلّ من كتب مقالاً أو كتاباً. يجبُ قطعُ لسان كلّ من خطب خطبة أو نادى نداء أو تفوّه بشعار. يجب بَتْرُ قَدَمِ كلّ إعلاميّ في إذاعة أو تلفزة نزل إلى الشارعَ لينقل الخطب أو يصف المظاهرات عن كثب.
قال الحمار الحكيم: إذا قطعنا كلّ لسان نطق بالكلام، وكلّ يد خطّت نصًّا، وكلّ قدم نزلت إلى الشارع تتبّع الخبر، فمَنْ سيخطب ومن سيكتب ومن سينقل الخبر؟

لم يُفكّر الضَّبُعُ طويلاً قال: يا معالي الوزير، نحن الضّباع لنا القدرة على كلّ شيء. سأجنّد لسيادة الملك الجليل كلّ الضباع لكتابة سيرته المجيدة وإلقاء الخُطب فيه في المساجد والساحات. سأجنّد له كلّ الضباع للتنشيط في الإذاعات والتلفزات وتأثيث البلاتوهات.

أسرع الوزير إلى الملك بالخبر. أعاد عليه ما قال الضَّبُعُ دون تحريف، فليس من عادة الحمار التحريف بالزيادة أو بالنقصان، والحمار عَيِيٌّ على مرّ الزمان. استجاب الملك للأمر وأرسل الذئاب تقطع الأيادي، تقطعُ الأقدامَ، تقطعُ الألسن. فامتلأت البلاد بالقُطْعانِ والعُرْجانِ والبُكْمان. ثمّ جنّد الضباع تكتب المقالات في الصحف والمجلاّت، تكتبُ الكتب، تخطب في المساجد والساحات، تُنشّط البرامج في الإذاعات والتلفزات، تؤثّث البلاتوهات، تُحاضر في الجامعات، تُغنّي في الأعياد وأعراس الأُسْدِ والحمير والذئاب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115