في بعض شؤون الثقافة: إنّ للوزير وظيفةً ساميةً

وحيد السعفي
لمّا فاجأتنا الثورةُ، وقفنا على حقائقَ عجيبةٍ. وقفنا على أنّ الإدارة تُدير نفسها دون حاجة إلى مدير،

وأنّ الإدارة العامة تُدير نفسها دون حاجة إلى مدير عام، وأنّ المؤسّسة الكبيرة تُدير نفسها دون حاجة إلى رئيس مدير عام، وأنّ الوزارة في نهاية المطاف لا حاجة بها إلى وزير. وساد هذا الاعتقاد وترسّخ مع مرّ الأيام. ساد وترسّخ لدى الجميع، بخصوص كلّ الوزارات، ولكنّه ساد وترسّخ أكثر لدى المثقّفين وأشباه المثقفين وكلّ الذين لهم علاقة بالثقافة.
وتساءل المثقّفون وأشباهُ المثقفين وكلُّ الذين لهم علاقة بالثقافة عن وظيفة وزير الشؤون الثقافية ما تكون؟ وقالوا في ذلك كلاماً كثيراً. وحبّروا المقالات في الصحف. وأطالوا الكلام في التلفزات والإذاعات. وتبادلوا الآراء على صفحات التواصل الاجتماعي. وكلّما تغيّر الوزير أعادوا الكرّة فحبّروا مقالات في الصحف وأطالوا الكلام في التلفزات والإذاعات وتبادلوا الآراء على صفحات التواصل الاجتماعي. والوزير، مهما يكن الوزير، عُرضة لذلك الأمر، صامت لا يتكلّم. فاتهموه بالتقصير. واتهموه بافتقاره إلى مشروع. وقالوا إنّ الوزارة ينخر فيها مرضٌ عضال، أصابها منذ ألف ألف عام، واشتدّ وقعه على المثقفين بعد الثورة، فمرّ على الوزارة الوزراء لا يحملون مشروعاً بعينه ولا يفقهون في الثقافة فقهاً وإنْ قليلاً.

وقالوا كلاماً آخرَ أستحي من ذكره. قالوا: إنّ الوزارة عرفت الانحدار وزيراً بعد وزير. قالوا: إنّها بلغت أقصى درجات الانحدار وسقطت في الحضيض لمّا أصبح الوزير حقيراً، غير جدير بالتقدير، لا يستحقّ من المثقّفين غير بيضة تُرمى على الجبين. قالوا: منذ ذلك الحين أصبح الوزير، مهما يكن الوزير، لا يخرج إلاّ للتدشين محاطاً بالحماية عن قرب خَوْفَ بيضة تُرمى على الجبين. قالوا: منذ ذلك الحين أصبح الوزير، مهما يكن الوزير، بعيداً عن الثقافة والمثقّفين، لا يرى إلاّ مدار عينيه لا يتجاوزهما، ويسيل دمعه مدراراً متوسّلاً إلى سيّده الكبير حتى يطول بقاؤه.
وقالوا كلاماً آخرَ أستحي من ذكره.

قالوا في وزير: أيُعقلُ أنْ يتبنّى الوزير موقفاً يُدينُ المثقّفين؟ أيُعقلُ أنْ يُصبحَ الرسّامُ عرضةً لتطاول الوزير الحقير؟ أيُمكنُ أنْ يتبنّى الوزير مشروع أهل الدين الضارب لكلّ ثقافة غير ثقافة الدين؟ وقالوا في ذلك الوزير: هل كان له مشروع ثقافي يا تُرى؟ وسارعوا إلى الإجابة: مشروعه ضربُ الثقافة والمثقفين.

وقالوا في وزير آخر: لا شيءَ معه غير تلك الابتسامة الصفراء، يستقبل بها النساء. لا شيءَ معه غير تلك الابتسامة الصفراء، تُوءَدُ بها مشاريع المثقّفين وتُقبرُ إلى الأبد طموحات الفنّانين. وقالوا فيه كذلك: أيُعقل أنْ يكون مشروع الوزير برنامجاً وضعته اليونسكو منذ سنين ليكون عشرية من عشرياتها لا برنامجاً مدى حياتها؟ وقد مرّت تلك العشرية وشاركت فيها تونس في ذلك الزمن القديم وتمتّعت من اليونسكو باعتمادات طالت المشاريع وأصحاب المشاريع والخبراء الذين عُيّنوا على المشروع وقد يكون ذلك الوزير منهم. وقالوا: في ظلّ افتقار الوزير إلى مشروع، أخرج عشرية اليونسكو القديمة لتكون المشروع، وهي ليست كذلك.

وقالوا في وزير آخر، أو لعلّها وزيرة: في ظلّ غياب المشروع كان التأجيل. كلّما خوطبت في أمر اعتبرته لا يرقى إلى الأولويات ولا يستحقّ التحقيق. واستمرّت الحالُ على تلك الوتيرة من التأجيل، فمرّت الأيام ولمْ يَتَفتَّحْ زهرُ الليمون لأحد من البشر ولم يرَ أيّ مشروع النور.
وقالوا في وزيرة أخرى: إنّها لاذت بالفرار. في ظلّ افتقارها إلى مشروع لاذت بالفرار. ولم يقولوا فيها غير ذلك. لأنّها حسب رأيهم لم تُباشر قطّ العمل في وزارة الثقافة. مجرّد تعيين وراءه سؤال؟

وقالوا في وزير آخر: إنّه يُحبُّ التدشينَ والظهور حتى جعل من ساحات المدن والقرى وملاعب الأطفال ومصبّات الفضلات حدائقَ للفنون. وقالوا: لِمَ لا يعود الوزير ليتفقّد الحدائق التي دشّنها للفنون، ويعلمَ أنّها عادت سيرتها الأولى: ساحات يلعب فيها الأطفال الذين ليست لهم ملاعب، ومصبّاتٍ للفضلات؟ وقالوا: أيمكن أنْ ترقى الساحات والتدشين والظهور إلى مستوى المشروع.
العُهدةُ في كلّ ما قُلنا على مَنْ قالوا.

تَبيّنَ لي أنّ هذه الأقوالَ تُريدُ أنْ تُكرّس من جديد أنّ الوزير ليست له وظيفة. وأنا لا أرى رأيها. فقد وقفتُ بفضل تجربتي المتواضعة على أنّ للوزير وظيفةً ساميةً هي وظيفة التأبين. فقد صادف أنْ تُوفّيَ في ظرف هذه السنوات القليلة الماضية حشدٌ كبيرٌ من المثقّفين. وقد تولّى هذا الوزير أو ذاك الوزير التأبين، حتى في ظلّ الحديث المتواصل في المقابر وعدم اهتمام المثقفين وغير المثقفين بما يقول الوزير. وقد وقفتُ عن كثب على جدارة هذا الوزير أو ذاك الوزير في التأبين. فليس من السهل أنْ نَجدَ للمتوفّى خصالاً وقد كان أمس يُقضُّ مضجع الوزير ويؤلّب على الوزير والوزارة الصحافة والإعلام. وليس من السهل أنْ يُعدّد هذا الوزير أو ذاك الوزير الخصال ولا أحد يسمعه غير المقرّبين في الديوان. وقد يؤبّن الوزير مثقّفين عمالقة في البلاد، فيُسرّ أيّما سرور. وقد يُؤبّن مثقّفين من درجة ثانية، فيُسرّ أيّما سرور. وقد يُؤبّن أشباه مثقّفين، فيُسرّ أيّما سرور. كذلك هو الوزير، يتأقلم مع كلّ وضع وحال. فالموت هو الموت. والتأبين هو التأبين.
لذلك لا بدّ أنْ نُردّدَ: إنّ للوزير وظيفةً ساميةً هي وظيفة التأبين. فليهنأ الوزيرُ إذن بالوزارة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115