افتتاح «السينما في الريف: قرية «النّصر»... نحن شعب لا يموت ينتصر او يبعث من جديد

السينما حياة، السينما كفاح، الكاميرا سلاحهم للتصوير للغوص في تفاصيل الواقع ونقل هواجس الإنسان

هنا إلى الآخر الذي يشاهد فيلما ما خلف الشاشة، هنا تكتب التفاصيل بدقة، تفاصيل الاحتجاجات توثّق بالكاميرا، تفاصيل العناد والتمرد تلتقطها الكاميرا بكلّ جزئياتها ولحظات الحلم أيضا لتكون شاهدة على رغبة جامحة في الحياة ومعاندتها ومقاومة قسوتها.
هنا السينما مختلفة، من ابتسامة الأطفال وعطش الى الإبداع تولد حركة ثقافية احتجاجية، حركة ثائرة تكتب تضع ابجديات جديدة للمقاومة بالفنون، تجربة اسمها مهرجان سينما الريف الذي تنظمه جمعية فن المكناسي في مدينة المكناسي واريافها.

فيلم «جهة» لرضا التليلي: نحن شعب لا نستسلم ننتصر أو ننتصر
«الفروسية» هوية، قيمة يعيش معها أبناء المكناسي وسيدي بوزيد و الرقاب و عقارب و سيدي علي بن عون و مجموعة من المناطق وسط الجمهورية التونسية، الفروسية بما تحمله الكلمة من معنى الانتماء والتجذّر والتمسّك بالصدق في القول والإخلاص للأرض والإنسان، الفروسية والأرض والتاريخ و الحقوق أربعة محاور يندرج ضمنها فيلم «رضا التليلي» الذي تمّ عرضه في مقهى قرية النصر في افتتاح الدورة الثانية لسينما الريف.

«جهة» هو عنوان الفيلم، كلمة لا تحدّها الجغرافيا ولا الحدود المكانية تركها المخرج مفتوحة لتشمل كلّ محبي الفروسية والمؤمنين بوجود الفارس كقيمة في الحياة وحتى وان اختلفت وجهة النظر التاريخية تظلّ الفروسية مبدأ يعيش به الكثيرون في ربوع هذا الوطن.
من الرقاب تنطلق الحكاية، حكاية رضا التليلي ابن تلك الربوع المخرج الذي تشبع بقيم الفروسية وجودة الخيل ومبادئ الكرم وحب الحياة، مبادئ أراد إيصالها إلى جمهور الفيلم الوثائقي ومحبّي اكتشاف طريقة حياة «الفرسان» و بعض «القبائل» الرحّل الذين لازالوا متمسكين بمعنى «الرّحلة» وان استقروا مكانيا وجغرافيا إلا أن زيارتهم للمكناسي و لمهرجان الفروسية تظلّ عادة لا يحيدون عنها.

إلى ربوع أرياف تونس تكون الرحلة السينمائية، إلى الرقاب والمكناسي وسيدي علي بن عون، فالشمال الغربي تحديدا عين دراهم فعودة إلى الجنوب التونسي تتجول كاميرا رضا التليلي مع «الفرسان» تغوص في أعماق حكاياهم وتفاصيل يومهم وتمسّكهم بتلك العادة تمسكهم بتربية الخيل البربرية «التي نربيها على حبّ السباق و الحياة معا» فالفارس والفرس تجمعهما علاقة عشق أزلية كعلاقة الأم بوليدها.

جولة مع الكاميرا، في جولة مع الأغنية البدوية وأهازيج الحياة، رحلة إلى الأعماق إلى أعماق النساء المتمسكات بتفاصيل الحياة و حبّ الغناء و المشاركة في تأثيث المحفل والتأسيس لفعل إبداعي تلقائي تكون المرأة محوره وعنوان التميّز فيه فالمرأة في الأرياف نظير للرجل في الغناء و الفروسية هي أيضا سيدة المكان وسيدة الموقف وصوتها ثورة وحضورها عنوان لتشبثها بالمكان لأنها نظيرة الأرض كما يقول احد الفرسان في الفيلم.

«جهة» فيلم جاب عدة مناطق من الجمهورية التونسية، فيلم يسلط الضوء على تونس الأعماق على عادة تكاد تندثر بنقص الخيول البربرية وهي الفروسية التي كانت ملاذ العديد للحياة، ملاذهم لنصرة المظلوم والتفنّن في حبّ الحياة.
«جهة» فيلم ينقد الواقع التونسي، ينقد تهميش الدولة للأعماق يكشف بؤس السيستام في تعامله مع سكّان الداخل فحين يصرخ مواطن تونسي «نحن بخير فقط لو يعطونا الماء» وحين يصبح الماء ذاك الحق الأساسي رجاء يطلبه المواطن كمنّة من دولته فتلك هي الطامة وأبشع أنواع التهميش والقسوة.

في «جهة» الكثير من النقد، للدولة للسياسة للتي تنتهجها تجاه مواطنيها، نقد للداخل ولا مبالاتها بالمواطن وبحقوقه احيانا، تعرية للتمييز والبؤس الذي يعاني منه سكّان الداخل، ونقد للظلم الاجتماعي الذي بسببه ثار شباب تونس ونادوا «شغل حرية كرامة وطنية»، في الفيلم يقدم المخرج الفروسية بصورتين مختلفتين من حيث الشكل الاولى الفارس الذي يحارب بسيفه وحصانه لافتكاك الحق والثاني الفارس الصارخ ضدّ الطغيان مستعملا وسائط التواصل الحديثة، صورتان مختلفتان والمعنى واحد «هنا يرضعون الشهامة منذ النعومة، هنا الفروسية قيمة إنسانية تتوارثها الأجيال، هنا مواطنون يعيشون بشعار نحن أبناء هذه الأرض فامّا ننتصر أو ننتصر».

قرية النص «محتشد من أحب تونس ودافع عنها
هنا المكناسي، منطقة معروفة بالحراك الاحتجاجي و مقارعة النظام، هنا شباب يحلم بإيصال الثقافة إلى الجميع، هنا مواطنون يريدون التمتّع بمواطنتهم كاملة دون تجزئة، المكناسي «قلعة النضال» كما يسميها أبناؤها، المكناسي تصنع ثورتها الثقافية انطلاقا من الشباب الحالم بقدرة الثقافة على التغيير وصنع البديل و التأثير في شخصية الإنسان ليصبح أفضل.
هنا المكناسي والوجهة ستكون قرية «النصر» ستّة كيلومترات عن المكناسي، الجبل الى اليمين و اليسار يغري الزائر بالتوقف قليلا لمشاهدة المناظر الطبيعية الممتعة، لافتة تحيل الى «مركض الخيل» فقرية «المش» وبعد ثلاثة كيلومترات لافتة كتب عليها «النصر» وفي مقهى القرية كان موعدهم السينمائي مع فيلم «جهة لرضا التليلي».
الجمهور لم يكن بالعدد الغفير فهم يفتقرون إلى ثقافة الفرجة ولكن أن يتحوّل المقهى إلى قاعة سينما فتلك ميزة للتظاهرة فعادة ما يكون المقهى للاجتماع وليس للفرجة في أفلام تلامس الروح والفكر معا.
هنا النّصر قرية صغيرة، مهمّشة جغرافيا، أبت الجغرافيا الاّ ظلمها وحرمان سكانها من العديد من الامتيازات الطبيعية والاجتماعية، هنا تهميش ونسيان ولكن هذه «القرية» جزء من الذاكرة الوطنية هي فكرة التحرّر التي لا تموت فكرة الحياة الخالدة وان فنى الجسد ففي هذه القرية اجتمع المقاومون، اجتمع من قاوموا الاستعمار الفرنسي بالسلاح وساهموا في تحرير تونس من ربقة الاستعمار الفرنسي.

بشاشيته الحمراء التونسية القانية كدماء رفاقه حاملي السّلاح،ولحفة بيضاء اللون صافية صفاء طفل صغير يجلس متوجّها الى ضيوف القرية ليحدثهم عن تاريخها وعن سكانها «فقريتنا لم تولد من الهامش، هنا الذاكرة و من لا ذاكرة له لا مستقبل له» كما يقول المقاوم احمد ساكري.
ذاكرته لا تزال حيّة، كلّ التفاصيل يخزّنها ليحكيها لضيوف القرية وزوارها، تونسيّ إلى حدّ النخاع متشبّع بحب تراب هذه الأرض ومتمسك بهويته وصفة «مقاوم»، هو ذاكرة المكان الى جانب أربعة من المقاومين الاخرين لازالوا يحتفظون ببعض التفاصيل و التواريخ التي سقطت من كتب التاريخ الرسمية.
هنا النصر وهنا لازال احمد الساكري يحتفظ في ذاكرته بقصة المكان، يحدثك عن اجتماع 18جانفي 1952 وجولة بورقيبة في ربوع الجمهورية للبحث عن مناصرين لفكرة حمل السلاح، تحمله الذاكرة الى لزهر الشرايطي و الطيب بوعمراني و الطاهر لسود وغيرهم ممن حملوا السلاح ضدّ المستعمر، يبتسم قليلا وهو يستحضر ذكرى رفاقه الشهداء، يحدّثك عن معركة خنقة جبل عيشة وجبل عرباطة و الروحية وكلّ الجبال التي سكنها «الفلاقة» لمحاربة مغتصب الارض.

ويشير عم أحمد الساكري إلى أنّه حمل السلاح في العام 1953 وبعد الحصول على الاستقلال وتزامنا مع حركة التحرير الجزائرية كان ممن ارجعوا السلاح الى الدولة عام 1967 ونزل من الجبل «كنّا ولازلنا نؤمن فقط باستقلال تونس، لذلك حملنا السلاح على المستعمر» ،لكن ما «راعنا انّ مجموعة من المقربين من النظام أخافوا النظام منّا ومن قدرتنا على العودة الى الجبال فاهدانا الرئيس الاسبق الحبيب بورقيبة هذا المكان، فبتاريخ أكتوبر 1957 وقع تجميع المقاومين من جميع جهات البدور و الردادية واولاد عبد الكريم واولاد مبارك والمشاشة في هنشير pierre lefi ووقع مدّ كل مقاوم بـ «قيطون» للسكن و«حصير حلفاء» للافتراش ووعدوهم بتخصيص قطعة أرض لكل مقاوم.
وفي العام 1973 قام «الحبيب بورقيبة» بزيارة ميدانية لمقاومي «النصر» واعطى الهنشير في شكل هبة للمقاومين وفي 1974 تمكّن كل مقاوم من الحصول على قطعة ارض وفي 1982 كلفت لجنة خاصة لتفعيل قرار بيع الأراضي بالدينار الرمزي ولكن منذ تلك الفترة الى اليوم لم يتمّ مدّ اي مقاوم بحجة الملكية فهل هكذا يجازى المقاوم في وطنه؟» كما جاء في نسخة من التقرير المرسل إلى هيئة الحقيقة والكرامة.

ويضيف عم احمد « هنا وضعنا نحن 304 مقاوم بعد تسليم السلاح، ننتمي الى جهات متعددة ومختلفة لكن جمعنا حبّ تونس فجمعنا في هذا المكان «المحتشد» كما يسمّيه المقاوم احمد السّاكري فهنا «يوهموننا بالحرية ولكن الخروج من النصر يتطلب العديد من الإجراءات لان الجيش والعسكر كان يحرس المنطقة انذاك فايّ حرية هذه وأنت تغادر باذن» واحمد الساكري سبق وان توجه بملف الى هيئة الحقيقة والكرامة بملفّ لاعادة الاعتبار للمقاومين باسم جمعية المقاوم التونسي ولكن لا مجيب.

أحمد الساكري الذاكرة الحية، الفارس الذي لازال متمسكا بفرسه لازال يمارس الفروسية لازال يشحن صغار القرية بحبّ الأرض و التمسك بها وان جارت فهي الامّ و المنشأ، احمد الساكري ذاكرة متقدة تسرد كلّ التواريخ والأسماء بدقة، هو طفل لا يكبر يحفظ أسماء رفاقه الشهداء ويكررها دائما استحضارا لذكراهم ورغبة في ترسيخ اسمائهم عند كلّ ضيف يحلّ بوحدة النصر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115