ونعني بذلك مفهوم الأنسنة بقي مقبورا في الثقافة العربية ودعني أقول في الثقافة التونسية لذلك لابدّ من تحرير الإنسان من ثقافة السلطة وثقافة العقيدة وإعادة بناء ثقافة الإنسان الثقافة التي يكون مركز اهتمامها الإنسان بوصفه إنسان لا بوصفه معتقد أو فكرة أو لون أو جنس أي ثقافة المجتمع الإنساني العقلاني الحرّ.
للقارئ أن يسأل هنا ويقول : ما علاقة مفهوم الأنسنة ومفهوم أنسنة الفضاء بالمجموعات الفنيّة و فنون الشارع ؟
سؤال وجيه ربّما إذا ما أخذنا الأنسنة في سياقها التاريخي الفلسفي ولكنّني لا أفعل هنا غير مقاربة المفهوم بظاهرة صحيّة فنيّة لا فقط تحاول أنسنة الانسان بل أيضا الأشياء والفضاءات العامّة فتجد صدّا وممانعة وفي هذا الصدّ ما هو معلن وصريح و ما هو خفّي، فحين تعترض السلطة التنفيذية بشكل معلن على ممارسة فنّ الشارع لسبب ما منطقي أو غير منطقي ، إجرائي قانوني أو متجاوز للإجراءات القانونية فذلك يعني أنّ الفضاء العام في الثقافة التونسية في ظاهره هو كذلك ، فضاء للعيش المشترك والمشاركة في كافة أبعادها وعند الاقتراب من هذا الفضاء فعليّا يصبح فضاءا خاصّا وغير متاح للكلّ وللعيش المشترك والحياة .
والسؤال الأهمّ في كلّ هذا هو منْ يَرفض ويتصدّى لجعل الفضاء العام كفضاء مشترك حاضنا لسلوك وممارسة ايجابية عقلانية فنيّة حضارية كونية لا تتعدّى على حريّة الآخرين ولا تمارس تجاههم أيّ شكل من أشكال الإساءة والخدش لوجدانهم وعقولهم وحريّتهم.
هل هي السلطة السياسية ؟
أم هي السلطة الدينية ؟
أم كلاهما؟
فهل تكون السلطة السياسية بدعوى الخوف من إرباك الحركة في الفضاء العام وهذا أمر يُفهم في ظلّ الوضع العام للبلاد واستغلال الجماعة الإرهابية لأيّ مناسبة تتيحُ لها التسلّل
والقيام بعملية إرهابية ؟
لنفترض ذلك . ولكن مقاومة هذا الإرهاب وأيضا ظاهرة الخوف لا يكون بقتل الفضاء العام وتجريده من حيويّته بل بالدفع إلى جعله أكثر حيويّة وحركية ولقاء ثقافي فنّي إنساني دون إلغاء الحذر والتنسيق الحرّ و اللامشروط.
وقد تكون السلطة الدينيّة وهذا محتمل وهو الشكل الخفي الذي افترضته، فالسلطة الدينيّة عرفت وعلى مرّ التاريخ بعدائها للفعل الثقافي الفنّي ولا أستبعد مطلقا أن تكون السلطة الدينية من تقف وراء المنع والعرقلة والتصدّي لأيّ فعل ثقافي فنّي خاصّة إذا ما خرج من الفضاءات المغلقة وتموقع في الفضاء الخارجي العام وجعله فضاء لطاقات الحياة وإنسانية كونية منفتحة على الآخر وعلى المكان والزمان ، لا أستبعد هذا الشكل الخفّي بعد أن فشلت السلطة الدينية في تونس من معاداة الفعل الفنّي المسرحي والموسيقي والتشكيلي في مناسبات عديدة وخلال سنوات 2012 و2013 والى اليوم كأمثلة فقط هنا لأنّ الوقائع في هذا المجال عديدة وبذلك هي اليوم تتصدّى بشكل خفّي وفي كواليس التسيير .
كما قد يكون كلاهما إما بالاتفاق أو بالتقاطع ولكلّ غاياته وأهدافه التي يهدف إلى تحقيقها من وراء هذا القتل وهذا التجميد للفضاء العام خاصّة ممّا هو حياة وبهجة الوجود .
لهذا أقول إن ما تقوم به هذه المجموعات من دور إنساني أساسي قبل أن يكون فنّيا وبكلّ وعي وقصدٍ لكلمة إنساني هو دور كبير وكبير جدّا قد لا ندركه الآن وفي هذه الّلحظة ولكن تبعاته الايجابية المستقبلية مهمّة جدّا لسببين:
الأوّل: أنّ هذا الحراك الفنّي التلقائي والعفوي أعني غير المبرمج ومنظّم وليس العفوي كنقيض للنضج هي طريقة من عدّة طرق لمقاومة ثقافة الموت والخوف والإرهاب الجسدي والمعنوي .
الثاني: هو عبارة عن ذبذبات حياة لمجتمع مصاب بالاكتئاب الاجتماعي لأنّ كلّ الثورات لها تداعيات نفسية و وجدانية على الأفراد وعلى المجتمع ككلّ و يتكفّل بها علماء الاجتماع وعلماء النفس من خلال منابر وحوارات مرئية ومسموعة ومكتوبة وأنشطة مجتمع مدني، منظمات وجمعيات وإعلام يؤثثها مختصّون وخبراء وهو ما لم يحدث في تونس بل هؤلاء أنفسهم يوزّعون شكلا من العنف المعنوي في تناولهم لهذه المسائل في أحيان كثيرة ، لهذا أعتبر أنّ ما تقوم به المجموعات الفنيّة على اختلاف نشاطها الفنّي موسيقي مسرحي تشكيلي هي علامة صحيّة داخل المجتمع ومعالجة نفسية ثقافية لمجتمع محبط ومكتئب .
لذلك أعتبر أنّ الممارسة الطبيعية والمدركة لخصوصيات المرحلة الراهنة في تونس اليوم هي الرّهان على هذه المجموعات وفنون الشارع لأنّ تأثيرها على نمط حياة الفرد ويوميّاته أكثر أهميّة من المهرجانات والتظاهرات الثقافية الكبرى فالرّهان الثقافي اليوم ليس فقط على الإشعاع الدولي الخارجي وصورة تونس الثقافية الحضارية على أهميّة ذلك بل الرهان الحقيقي الفعلي المؤسسّ لمجتمع سليم جسديّا وذهنيا هو الرهان على بناء عقل ثقافي وبنية شخصية سليمة فالفرد بوصفه مجتمع والثقافة بوصفها شخصية الفرد والمجتمع هما كلّ ما يبقى لنا حين ينهار كلّ شي وهما من تعيد بناء ذلك على مدى زمني قد يطول .
فلابدّ في هذه الحالة من ترك الحريّة الكاملة والفضاءات المفتوحة لهذه المجموعات بل من الضروري أن نقوم بدراسة جدوى جديّة لهذه المجموعات وما تقدّمه من مبادرات حقيقية وهادفة ونمنحها إمكانات مالية وخارطة عمل جغرافيّة للنقاط التي تتطلب تدخّلا ثقافيا عاجلا لتكون هذه المجموعات وهذا الشباب المبادر والمسؤول سلاحا ثقافيا فكريا حضاريّا فنيّا لمحاربة سلاح الإرهاب والعنف والخوف .