« ضيف شرف» بينهم إلى الفنان (مكرم نصيب) وإلى مشاكسي الشخصي (لطفي علية) رأسا
1
(شكري علية )مسرحي تونسي أصيل « مدينة التدقيق والتحقيق ( قفصة) يقيم في باريس. . ابن الضفتين.. رحالة بالمعني المادي والرّمزي
في ممارسة «تيههِ الابداعي». اذ اقترن «بالفعل» المسرحي شَغَفا ذاتَ صدفة سعيدة هو الذي يقول عن نفسه بكل تواضع: لم تكن لي معرفة لا من بعيد ولا من قريب أصلا بالمسرح . وملخَص الحكاية أن زميلا لي في الدراسة في ( معهد حي الشباب ) أصيل (قصر قفصة) اقترح علي المشاركة في عمل مسرحي كان موضوع المسرحية ومدارها الرئيسي « فلسطين المحتلة» مظلمة القرن العشرين كما كان يقول الراحل( الحبيب بورقيبة) . كان علي أن اقوم بدور في تلك المسرحية بمناسبة « يوم الأرض» عنوان المسرحية إن لم تخني الذاكرة «أمّ الأرض الجريحة».
اسم (فلسطين) لوحده كاف ليبعث لدّي حماسا انا نفسي لم أكن افهم سرّه قبلت دون تردد رغم ما اعتراني من رهبة وخوف لأني مُقْدِم على المجهول ثم اني شخص خجول بل كثير الخجل لاعتبارات ثقافية آتية من بعيد... ثم أن عمري كان حوالي 13 سنة... ادرس في السنة الثانية ثانوي. كيف لي أن أواجه الجمهور أنا الذي تربيت على ألا ارفع صوتي من باب الكياسة الاجتماعيّة... ويكاد يعاودني نفس الشعور اليوم ويتزايد ايقاع نبضات القلب كلما اقدَمت على تقديم عمل جديد من أعمالي كما حدث لي مع مسرحيتي الأجد «الليلة الثانية بعد الألف». لا يبدو أن ذاكرة الطفولة أو الشَباب سهلة الانقياد.. وأذكر جيدا مروري من زمنين : زمن ما قبل الرُّكح وما اعتراني من هشاشة وارتجاف .. وتلعثم في الخطى والعواطف .وزمن الخشبة المقدسة ... آه كم كان الأمر مربكا ولذيذا فاكتشفتني آخر... شاب تخلَص من كل رواسب وأسباب الخوف دفعة واحدة أو هكذا يبدو لي, تحوَلت فعلا من شخص خجول اقرب إلى الانطوائي إلى شخص انبساطي منفتح على «الآخر» بأوجاعه وأفراحه وكانت فلسطين جرح الكبار عندنا فورثنا الإسم المقدس والجرح العميق , تحوَلتُ بذلك «الفعل المسرحي العفوي» إلى «شخصية» تقمصتْ لحما ودما وكيانا بالمقاوم الفلسطيني الذي لا يهاب الأعداء... يعيش على اقتناع وايمان وقناعة انه مشروع «استشهاد». كانت بداية مغامرة حياتي مع المسِرح الذي سوف يمنحني هوية جديدة لم تخطرلي على بال من قبل أبدا.
ثمة تدابير ومسارات للكائن البشري في حياته ترتبها «الصدفة» فتحدد له مصيره في الوجود فيقيم في العالم وفقا لمنطق تلك الصُّدْفة _ اللُّغز.صدفة الميلاد من ابوين محددين . صدفة الميلاد على ممتد جغرافي محدد يكبر أو يصغر.. صدفة الميلاد في ارض البراكين أو الصحاري أو الوهاد . او عند زمن محدد من الازمان .
2
لقد كانت البداية مع المسرح «هواية مدرسية». ثم ماذا بعد اكتشاف «الرهيب المسرحي» اذا اردنا مشاكسة الفنان منير العرقي ؟
واصلت النشاط في (نوادي الهواة) وقدمنا عدة أعمال بالجهة ويعنيني أن أدوّن للذاكرة الثقافية المشاركة النسائية في معظم تلك الأعمال دون تأطير أكاديمي من أي كان . ويعنيني أن ادون كذلك أن جميع الفضاءات الثقافية كانت تتم في اطار ما يسمى «الشبيبة المدرسية» وهي الجهاز الحكومي للحزب الواحد والبطل الواحد الوحيد الأوحد لمراقبة جولان الأفكار. حين بدأ عملنا يستقطب غيرنا من الشبان أراد المشرفون على الشبيبة المدرسية استقطابنا واحتواءنا من ذلك مثلا أني دعيت إلى لجنة التنسيق فاقترح عليا المسئول تقديم إعانة مادية من شانها أن تساعدنا على تقديم أعمالنا والتجول بها في الجهات ففرحت لكن سرعان ما انكسر خاطري عندما طلبي مني على طريقته المواربة التي يعرف سرها المتمرسون بسياسة الحزب الواحد الانتساب للشبيبة المدرسية والحصول على بطاقة انخراط حزبي من شأنها أن تكون شهادة منهم لسلامة نوايانا الخالصة إزاء الحزب الدولة فكانت أولى خيباتي أنا المراهق الذي لا يؤمن أنَ للحرية حدودا. فرفضت الإعانة لإحساس مني أولا بان الفنان يجب أن يكون حرا وأنا قد حصلت على صفة الفنان بشهادة أعمالنا وإن هي عفوية بشهادة من حضر ثم إني رفضت كذلك ما يتهامس به الكثير من المواطنين حول السيرة السيئة لرجال السياسة في البلاد. صدقا قد خفت على صورة الفنان كما رسمتها في خيالي.
الأعمال التي قدمناها كان مدارها النقد العنيف لحضور الشعوذة في السلوكيات اليومية ملخص هذا العمل والذي عنوانه «سيدي بو الوذاني» (سيدي أبو الأذنين) لقد جسدنا المشعوذ في صورة المتحيّل الذي شيّد لحماره مقام ولي صالح حين نفق ذلك الحِمار «المبارك» وادّعى أن هنا في هذه الزاوية ينام رجل صالح من ذوي البركات الأكيدة يشفي من البرص والعرج والحول والعقم ويُشْفي من العنّة ويقبل مقابل خدماته «الشريفة» كل ما يقدم له من الدجاج العربي إلى الخرفان أو قوارير العسل... الخ
وعملت المسرحية على كشف هذا «الولي الصالح» صاحب الحمار و تخجيل من آمنوا بأكاذيبه وروجوا لها لقد اعتمدنا الأسلوب الهزلي في نقد تلك المهازل الاجتماعية التي كان هدفها الرئيسي تغييب الملكات النقدية لدى الجمهور ليسهل ويسْلس انقيادهم. قد كان نقدنا مزدوجا بمعنى انه لم يكن يستهدف السلطة السياسية ورأس تلك السلطة السياسة وإنما يستهدف كذلك ما ترسب من سلوكات خرافية في رؤوس الشعب الذي يسلك فكريا ضد مصالحه بفعل المعاودة والتكرار في تبني الأحكام المسبقة الموروثة منذ قرون.
3
هل لي أن افهم أن وعيك المسرحي الجمالي اقترن بوعيك السياسي.؟
ليس صدفة أن يكون أول عمل شاركت فيه كان حول فلسطين المحتلة. أما على مستوى السلوك اليومي في المدينة فيجب أن لا ننسى الحراك الاجتماعي الساخن في مدينة قفصة من ذلك أني شاركت كما معظم الشبيبة في متواليات الاحتجاجات كالتي حدثت في سنة 1978 وما جاورها ...
ليس غريبا على المسرح والفعل المسرحي و حضور المسرح في المدينة منذ تأسس اقترانه بالسياسة بما هي فن تدبير الشأن العام و الأمر العمومي. أعني ولادة المسرح مقترنة بالوعي بالأزمات سوى في شكله الكوميدي الساخر أو في شكله الملحمي التراجيدي يظل في هذه الحالة و تلك كأداة للتطهير بالمعنى الأرسطي وهو بذلك سليل الأزمات و المنعطفات الحاسمة في تاريخ المجتمعات أو الحضارات الكبرى شانه شان الفلسفة و الملاحم الكبرى كما ملحة «جلجامش». والان ادرك اني ولدت مسرحيا يوم» 30 مارس 1976».
4
لقد حضرتُ عرض مسرحيتك الأجد «الليلة الثانية بعد الألف». قبل أن احضر المعرض تساءلت بيني وبين نفسي ماذا ستقدم لنا من سرديات هذه «الليلة الثانية بعد الألف ليلة وليلة» ثم ما هي مبررات استحضار هذا المتن التراثي، أليست حياتنا كلها مهددة بالتتريث للحد الذي يمكن معه القول أن التراث هو الذي يملكنا و لسنا نحن الذي نملكه.
-إن استحضار متن «ألف ليلة و ليلة» ومسرحته قد خضع لقراءة معرفية و تأويلية تمركزت حول أسئلة الراهن الحضاري محليا وكونيا. محليا الحضارة العربية الإسلامية الشرقية عموما و الحضارة الغربية التي نخلع عليها صفات الكونية.
5
أنا لم افهم جيدا مبرر استحضار هذا المتن التراثي لان المجتمعات الأكثر علمنة تستحضر متونها الأكثر تراثية في التراث فكان الحرب التي نعيش هي حرب بين الكتب لا بين البشر.
لقد استحضرت فقط شخصيتين من « ألف ليلة وليلة» : شهرزاد وشهريار لينتظم لي خيط رابط حواري بين زمن ما يسمى «الاستبداد الشرقي» القمعي و أشكال الاستبداد الجديدة المتنكرة بأقنعة أخرى محاولة منّي لتحرير الشرق من الرؤية الاستشراقية الظالمة لمعظم مستشرقيه الذين يقدمونه كما خزان للاستبداد والدموية والانحدار بالإنسان إلى ما دون مرتبة الحيوان كما تحرير الغرب من معظم مفكري «الاستغراب» الذين يقدمونه مجرد «جبار تكنولوجي» الذي أنتج إنسانا مبتورا حين لم يعد يعترف بكل ما هو لطيف و يحيل على اللطافة و الرهافة والروحانيات أو بلغة أخرى حين غمرته «الجهالة الجديدة» فكأنما أنتج إنسانا لحظيا لا يعترف لا «بالما وراء» ولا «بالما_ بعد الحياة» وفي هذه الحالة و تلك يتقمص
الشرق صورة «المنقذ من الضلال» المادي بإراقة الدماء باسم «المقدس الديني» في حين أن الغرب «الكافر» يريد إنقاذ العالم والإنسانية «بالمقدس الديمقراطي» ويبدو لي لئلا أكون جازما أن الغائب الرئيسي هو الحوار الحقيقي وليس حوار الطرشان الذي لا يمكن إلا أن يكون مبنيا على المعرفة والاعتراف المتبادل. الشرق يتقدم نحو الغرب بأقنعة المقدس سليل ذلك الشرق يريد فرضه كأنموذج وحيد أوحد لشكل الانتظام الحضاري الإنساني دون اعتراف بالاختلاف وبحق الاختلاف وهو بذلك يسحق فكرة التنوع فيفوّت على نفسه اكتشاف الثراء الحقيقي للإنسانية جمعاء وهي نفس الغفلة التي يقع فيها الغرب حينما يقدم نفسه كالحامل والحامي للمطلق الذي من شانه أن يخلص البشرية «بالمطلق الديمقراطي» من كل ما ترسّب من سلوك استبدادي شرقي في حضارته.
ما يعنيني من مسرحية «الليلة الثانية بعد الألف» حمل المخاطبين على التساؤل و استئناف التفكير الجدي في أصل الهويات الحضارية والاجتماعية. فهل حقا ثمة «هويات قاتلة» وفق عبارة أمين معلوف في المطلق و«هويات متسامحة» في المطلق. حينما نتدبر مسالة الهويات المطروحة في هذا الحين الحضاري, في هذه المحيطات العاصفة بكل الجهات و الحدود والمفتتة لكل أشكال الصلابة الانتسابية معتمدين ما كان أطلق عليه الألماني «نيتشه» المنهج الجينيالوجي» للبحث في أصل وفصل الشر أو ما أطلق عليه وريثه الفرنسي «ميشال فوكو» المنهج «الاركيولوجي» للبحث في علاقة السلطة بالمعرفة يبدو لي إننا سوف نكتشف إن كل الهويات مهما كانت متباعدة و متناثرة في الزمان و المكان إنما هي هويات مُركّبَة مما يقودنا إلى استنتاج لا تتحمل الذهنيات المغلقة نتائجه وهو أن فكرة الشفافية وفكرة الصفاء العرقي واللوني والثقافي والحضاري عموما إنما هي وهم من اخطر الأوهام التي قادت إلى المحتشدات وإلى المحارق وارتكاب أفظع الجرائم في حق الإنسان والطبيعة وحتى في فكرة الله ذاتها بمعنى انه إذا أردنا أن نقتصد في العنف ونفتح «طريقا ملكيا» ممكنا «للتسامح» و«التعايش» و«السلام الدائم» وتدشين نمط جديد للإقامة في العالم علينا أن ندرك حقا أن كل الهويات إنما هي مركبة من غيريات متعددة
وبإمكاننا التوسّل بمثال إجرائي و هي اللغة ذلك أن كل اللغات يوجد في نسيجها عناصر وافدة في الأصل من قارات لسانية أخرى و بفعل طول الاستعمال والزمن أصبحت من النسيج الأصلي لتلك اللغة فلم تعد غريبة
وبأكثر وضوح أن الآخر هو من كان يمكن أن أكون سواء في صورته السالبة «الآثمة» أو في صورته المسالمة. فأثناء حرب الخليج كثرت أوصاف العراقي صدام حسين بهتلر في الصحافة الغربية و بغفلة شديدة كما لو أن هتلر «ظاهرة شرقية» لتبرير نشر المطلق الديمقراطي المقدس باستعمال جميع الأسلحة لمحو الذاكرة الحضارية التي من شأنها ان تحصن ذلك الشعب من السقوط السريع فالمبادرة بضرب المتاحف وتخريب المكتبات كأنه ثأر شخصي لضرب «شهريار» و الثار من مدونات القانون الذي «لحمو رابي» و إرادة طلب الخلود عند البطل الملحمي «جلجامش».
إن فكرة الشفافية في الهويات عموما حتى في هويات النصوص الأدبية تستلزم المراجعة الأكيدة ربما لذلك استحضرت المنجز الطبي والممارسات الطبية في فضاء ذلك المجتمع المنعوت بـ «المستبد» و«الظالم» و«الساحق» «الماحق» للمختلف والغريب والمتشرد
وننسى انه وجدت الكثير من الفضاءات والفسح التي اعتنت بالمرضى المجانين, الفقراء والمعدمين دون التساؤل عن مكانتهم الاجتماعية ودون مقابل مادي ودون التحري في معتقداتهم وجنسياتهم اقصد انه في كل الحضارات ثمة نزعة إنسانية هي التي يجب إظهارها لنتحدث عن الممكن الجمالي الجامع لأفق بشري إنساني لم تعرفه البشرية بعدُ و تلك هي مهمة الفن ورسالته الأساسية في الراهن كما كان في الماضي وقد ازداد منسوب التجاهل «للجميل» و«الجليل» في كل الحضارات. إذا لم يكن للفن من وطن فانه لكل فنان وطن يدافع عنه وأنا بمسرحيتي «الليلة الثانية بعد الألف» أردت أن اذكرّني أنا أولا بان لي وطن وذاكرة وأن لا معنى لوطني دون استحضار الآخر, الذي له وطنه. ولكل آخر آخره الثري والمتنوع والمختلف فهويتي الوطنية هي من هوية أوطان أخرى وهوية الأوطان الأخري التي للآخرين هي من هوية وطني لذلك استحضرت في هذه «الليلة الثانية بعد الألف» ممثلين من عديد الجنسيات و الأوطان والأديان لتقمص ادوار هي نفسها تحاول كسر الحواجز الفكرية والنفسية والعاطفية والاتنية مثلا(شهرزاد) تؤديها شقراء فرنسية.. الفلاح البسيط الفرنسي يؤديه ممثل فرنسي من أصول افريقية ومنظفة المتحف تونسية مزدوجة اللسان. لا ننسى أن هذا المحلوم به في هذه المسرحية سياسيا وحضاريا أردت له إطارا شعريا يتوفّر على أكثر ما يمْكنُ من عناصر جمَالية سردا وموسيقى وكورغرافيا و سينغرافيا.
آه ... إذا كنت قد تشرّدتُ من اجل المسرح سيد الفنون فإن المسرح قد حصّنني من الانغلاق على نفسي في واحدة من «الهويات المغلقة» , حصنني فعلا من السقوط في هاوية الهوية الواحدة الوحيدة الممكنة . إني و إن كنت انتمي إلى ضفّة بعينها ... فاني ابن كل الضفاف....ويبقي المجد لهذا الفن ... وللفنون كلها . ولفنانين في الوطن والعالم.. صناع البوصلة الجمالية وحُراسُها في الوطن والعالم .
6
هكذا قال من أحْبَبْتُ أنْ أسمية « الوليد اُلْمَسْرحِي التونسي ليوم الأرض الفلسطيني «. مازال الممكن الجمالي ممكنا : محبة وصداقة ... ومعرفة واعترافا ..
( قفصة _ 30 مارس_ آذار 2018)