حينها الباجي قائد السبسي والذي سيصبح بعد أسابيع من هذا التاريخ رئيسا للجمهورية التونسية بعبارة «ماهي إلا مرا» تعليقا على موقف اتخذته النائبة بالمجلس الوطني التأسيسي محرزية العبيدي عن حزب النهضة.
كسليل مفترض للفكر البورقيبي أثارت عبارة «ماهي إلا مرا» لغطا كبيرا داخل أنصار الباجي قائد السبسي قبل خصومه باعتبار النواة التي تم من حولها بناء هذا المشروع السياسي والقائمة أساسا على تسويق فكرة قائد السبسي كامتداد فكري لبورقيبة محرر المٍرأة التونسية و لئن امتعض أنصار قائد السبسي من هذا التصريح و اجترعوه بصعوبة فإن خصومه ذهبوا أشواطا في تأويل ذلك إلى بذور مستقرة في لاوعي الرجل سياسيا وذكوريا.
دار جواد .. السجن الجامع
داخل كل بيت تونسي تقريبا غرفة مخصصة للأمور الطارئة من قبيل قدوم ضيف ما دون سابق إشعار حيث يقع تجميع كل ما يتعلق بالفوضى و رميه داخل هذه الغرفة على عجل إلى حين مغادرة الضيف الثقيل و لعل الطريف في الأمر هو أن التعامل مع التاريخ في تونس و خصوصا مع صفحاته غير المشرقة يتم تقريبا بنفس الطريقة و في غرفة مثل التي ذكرناها بحجة الإبقاء على الغسيل الداخلي داخليا.
الحديث عن دار جواد كمؤسسة سجنية أوجدتها السلطة الدينية لتأديب النساء اللاتي يخرجن عن طاعة الأزواج هو نبش في ذاكرة شبه مقبورة حتى أن المراجع الأمينة و التي يمكن الاستناد إليها تبقى شحيحة و نادرة الوجود خصوصا مع تناول الموضوع في السينما من خلال قصة مركبة بعناية أودت بعدد من النسوة إلى هذا المكان القامع للحرية و جعلت من حكاياتهن وقودا لتقاطعات عدة من المخاض السياسي الذي كانت تعيشه تونس في خمسينات القرن الماضي إلى القصص الفردية مرورا بتناقضات مثل الرغبة في التحرر و الإمعان في رفضه و هو الأمر الموزع بالعدل بين الجنسين في فيلم الجايدة .
بين الوثيقة التاريخية و التاريخ المعاد تركيبه
ينتهي فيلم «الجايدة» بمشهد حقيقي لعودة الرئيس الحبيب بورقيبة من المنفى في غرة جوان 1955 مع إدغام مشاهد إضافية و متخيلة تضم عددا من بطلات فيلم الجايدة ضمن مستقبلي بورقيبة في إشارة إلى أن عودته هذه مرادفة للحرية في مفهومها الواسع. يتم استعمال الوثائق التاريخية عموما من صور و خطابات و مشاهد مصورة سواء في السينما أو المسرح أو حتى الأدب قصد البناء حولها و تكوين نسيج جديد يدين بالفضل للوثيقة الأم و لكنه ينتمي في النهاية لصاحب العمل و هذا ما يطرح حقيقة و بشكل متكرر السؤال حول ذلك الحجم من الأمانة الذي يجب أن يلتزم به صاحب العمل بين ما يمنحه إياه الإبداع من هامش حرية و بين ما يمكن تمريره بقصد أو بغيره من رسائل مغلوطة.
في واقع الأمر لا يمكن اعتبار فيلم الجايدة وثيقة تاريخية يمكن العودة إليها لدارسة تلك الحقبة من الزمن في تاريخ تونس لاعتبارات كثيرة لعل أهمها هو أن العمل اشتغل على أجزاء تاريخية حقيقة و هامة في تاريخ البلاد و لكنه أعاد تركيبها و توزيعها بشكل مغاير إلى درجة حولته أو كادت إلى عمل يهمش القضية/المركز التي يعمل عليها.
لا يشير فيلم الجايدة لا من قريب أو من بعيد إلى مساهمة المرأة التونسية في مشوار التحرر الوطني ضد المستعمر الفرنسي و هو رأينا في الحقيقة غير مطالب بذلك لتقيده بفترة زمنية تدور خلالها أحداثه و لكن المنزلق الحقيقي ربما و الذي يمكن الإشارة إلى الوقوع فيه هو تلك العبارة التي حددت فعلا و بشكل غير دقيق توزيع الأدوار التاريخية خلال تلك الفترة و التي جاءت على لسان بلال الباجي حين كان يردد المرا تناضل في دار جواد والراجل في الشارع فالعمل غير مطالب كما أسلفنا بالعودة إلى معطيات بعينها لكنه و في المقابل معني بعدم طمسها أو تحريفها نحو وجهة أخرى رأيناها سياسية بامتياز .
هل أغلقت دار جواد ؟
دون قرار لغلق دار جواد و دون الإشارة إلى ذلك في نهاية الفيلم يبدو أن المخرجة التونسية سلمى بكار قد اختارت هذا النهج للتأكيد على أن هذه الدار لم تغلق و إن كان ذلك بشكل مجازي وللإصرار ربما على تواصل معركة التحرر رغم الهنات التي ذكرناها فالمعركة مع السلطة الدينية المتحجرة متواصلة والمعركة مع العقلية الذكورية و عقلية ماهي إلا مرا المذكورة بالمناسبة داخل الفيلم في أكثر من مناسبة مستمرة و إن اختلفت السياقات .
منيرة الزكرواي ونجوى ميلاد .. نجوم ظل
الطفرة الحاصلة في المشهدين التلفزيوني و السينمائي في تونس خلال السنوات القليلة الماضية أعادت إلى المشهد بعضا من التوازن بظهور عدد من الوجوه التي أنفقت جزءا كبيرا من عمرها ومن تجربتها في المسرح التونسي اختيارا أحيانا ولتقلص الفرص في أحيان كثيرة على غرار منيرة الزكرواي ونجوى ميلاد اللتين لفتتا الأنظار داخل فيلم «الجايدة» بقدرة عالية على التقمص و الانسجام داخل الشخصيات. هذا بالإضافة إلى الكبيرة فاطمةبن سعيدان صاحبة الكعب العالي و التجربة الطويلة في المسرح و السينما التونسية والتي تقود منذ سنوات طويلة ثورة نجوم الظل في تونس.
خليل قطاطة