والناظرُ إلى خطب وخطابات حركة النهضة، الباركة على مصير ثورة لم تقم بها أصلا وعلى مصير بلاد أقدمَ حضارة من الإسلام ذاته، يلاحظ، بيسر، أن هدف هذه الخطب وتلك الخطابات لم يكن إقناع المريدين والأتباع بنهج إسلامي معتدل من أجل تأمين فترة انتقالية غير انتقامية، بل كان تحريضا تكفيريا صريحا على إقصاء وقتل كل من لا ينتمي إلى الفضاء الموميائي لهذه الحركة، التي يرأسها رجل يمنعه الوهمُ وقلّة الشّجاعة من تحمّل أيّة مسؤوليّة في الدّولة.. وكأنّه نصف إله يسكن في طبقة الأوزون.. ما بين الأرض والسّماء؟؟
من خصائص اللّغة أنّها فضّاحة لنوايا مستعمليها وخصوصا منهم أولئك الذين يضمرون عكس ما ينطقون به وعكس ما يكتبون عنه وعكس ما يفكّرون فيه.. هذا إذا فكّروا أصلا.
فشكرا للّغة العربيّة الفضّاحة التي دلّتنا، في وقت قياسي، على أنّ الدّيمقراطيّة تعني الخلافة السّادسة، وعلى أنّ تقرير الدّستور هو تزوير الدّستور، وعلى أن توقيت الانتخابات الرّئاسيّة والتّشريعيّة القادمة هو: «إن شاء الله..ابتداء من السّاعة الساّبعة صباحا»، وعلى أنّ التونسيين ينقسمون إلى مسلمين وإلى كفّار، وليس إلى تونسيين وتونسيين، ثم إلى رجعيين وإلى تقدميّين فيما بعد، وعلى أنّ المليشيات وقطّاع الطرق هم لجان حماية الثّورة. وعلى أن الشّهيد شكري بلعيد سيكون مآله جهنم الحمراء، فيما ستكون الجنّة مآل قتلته ومآل من دلّ قتلته عليه.
و«شكرا» للهراوات والسّكاكين والمسدّسات والألغام التي بيّنتْ بما لا يدع مجالا للشك أنّها الحروف الحقيقيّة المكوّنة للغة حركة النّهضة، وللغة من والاها من الطّراطير والجلابيب والشلائك.
أما ما تبقّى من «الشّكر» فموجّهٌ إلى لغة دعاة الوهابيّة وإلى لغة شيوخ الإسلام النّفطي الذين يتمّ استقبالهم كالملوك داخل المنطقة الأمنيّة التّابعة لمطار تونس قرطاج الدّولي، دون تفتيش حقائبهم المليئة بالدّولارات، من أجل أن يحرّضوا التّونسيّين على الفتنة وعلى الاقتتال.
لم يكن التّونسيون يحلمون بحكم أكثر تفاهةً وأشدّ فداحةً من هذا الذي هم بصدده الآن.. وحتى النّزر اليسير من المواطنة التي افتكّوها، عبر نضالات طويلة في عهد الدّساترة ثم في عهد التّجمعيّين ثم في عهد الثّورة المغدورة، فقد اكتشفوا أنّ حكّامهم المنتخبين بشكل «قَطَري» يستكثرونها عليهم، ويحثّونَهُم على التنازل عنها حتى تستقيم شروط الولاء التامّ والعبوديّة الخالصة.
أما الآن وقد اكتشف التّونسيّون ما اكتشفوا فما عليهم إلاّ أن يكفّوا، نهائيا، عن تسليم مصائرهم للأفراد مهما كانت خوارقهم، وللأفكار مهما كان سموّها وتعاليها... ليُديروا معاركهم على أرضهم التي هي مرادف لحياتهم: حياتهم المُعطّلة بسبب أوهامهم وأصواتهم الممنوحة لتلك الأوهام بالذات.