وهل يقدر الموت على إخماد أنفاس مقاتل شرس تمرّد على السلطة وتحدّى العرش ومُحارب عنيد أسكت الوجع وروّض المرض؟ وكيف يكون الرّحيل الأخير ومداد القلم لم يجف ودم الشعر لم ينضب بعد من عروق الصغير أولاد أحمد؟ لماذا اقتطع شاعر الخضراء التذكرة الأخيرة إلى هناك وشعبه وعشاقه وقراءه ما زالوا في نهم لإبداع أنامله وفي ظمإ لنظم كلماته؟
يوم 4 أفريل 2016 احتفل الشاعر الكبير بعيد ميلاده الأخير على سرير المرض بين قضبان المستشفى العسكري وفي موعد جديد مع حصة العلاج من المرض اللعين فكتب قائلا :« عيد ميلاد في غرفة أنيقة بالمستشفى العسكري؟هذا يحدث أيضا. سأعيش هذا العيد وأحكي لكم، رغم أنّ أصابعي تثقل زمن الكتابة، وعواطفي تنساب بغزارة إذا تمكّنت من الكتابة.» يا له من لعين هذا القدر الذي أمهل أولاد أحمد يوما إضافيا للاحتفال بعيد الميلاد رقم 61 لكنّه بخل عليه بأيّام أخرى أو حتى بساعات قليلة ليحكي لنا عن هذا العيد الحزين !
بين الميلاد والممات ... ثروة شعر
كان ميلاده ذات ربيع من سنة 1955 بمهد الثورة سيدي بوزيد. بدأ تعليمه في كتاب القرية فتعلم القراءة وحفظ القرآن ثم دخل المدرسة الابتدائية بمنطقة النوايل في سيدي بوزيد ومنها تحصل على شهادة التعليم الابتدائي سنة 1968، ثم انتقل إلى ولاية قفصة لمواصلة تعليمه الثانوي.
واصل شاعر تونس الراحل دراسته بالمدرسة العليا لأطر الشباب بمنطقة بئر الباي بين 1975 و1977 وتحصل على شهادة منشط شباب. في عام 1978 عاد إلى سيدي بوزيد وتحصل على شهادة الباكالوريا وسافر إلى فرنسا حيث درس علم النفس بجامعة رامس.
ولأنه صوت حرّ وقلم جامح يأبى الترويض فقد عمل أولاد أحمد منشطا في عدد من دور الثقافة قبل أن يعرف البطالة من 1987 إلى 1993. كما اشتغل ملحقا ثقافيا بوزارة الثقافة من 1993 إلى 1997، ثم أسس وترأس بيت الشعر التونسي من سنة 1993 إلى 1997، وعمل في عدة صحف محلية وأجنبية.
وقبل أن يترجل الفارس عن صهوة فرس الشعر ويغادر مملكة الحرف ترك هذا الشاعر المعطاء حتى في آخر نبضات عمره لعشاق الكلمة و القصيدة ثروة لا تقدر بثمن من الأشعار التي تداولها بالأمس ويتداولها اليوم وسيتداولها غدا الكل في مشارق الأرض ومغاربها . كيف لا وهو صاحب «نحب البلاد» و»نساء بلادي» و»إلاهي» و»ليس لي مشكلة» و»نشيد الأيام الستة»و»حالات الطريق»و»القيادة الشعرية للثورة التونسية» ...
وحتى في موته ، كان كريما فرفض الرحيل دون كتابة «الوصيّة» التي قال فيها:
«شبه متيقّن كنت.
أمّا الآن : فعلى يقينِ مالحِ من أنّني سأموتُ
ميتةَ غامضةً
في الصّيف
وتحديدًا :
أثناء النّصفِ الثالثِ من شهر غُشْتْ
أحبّذهُ زوجيّا، باسماً، ذلك اليوم.
حليق الذّقن – مُهذّبَ الأظافر – أنيقًا بربطة عنق
خضراء. وحذاء أسود لمّاع»
وكان له ما أراد فقد مات أولاد أحمد باسما ، حليق الذقن، أنيقًا، مُهذّبَ الأظافر... لكنها لم تكن ميتة غامضة بل موجعة، مبكية، مؤلمة إلى حدّ الصدمة والغيبوبة أمام الفاجعة الكبيرة !
ثائرا في البدايات...شجاعا في النهايات
في أواخر السبعينات وفي سن الخامسة والعشرين، انطلقت تجربة أولاد أحمد الشعرية فكان أول ديوان شعري عام 1984 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مخضبّا بحناء الغضب والثورة ضد السلطة والنظام فكان الثمن منع توزيع ديوانه الذي بقي محجوزا حتى 1988 قبل إتلاف نسخه وتمزيق ورقاته ...
وبدوره واصل نظام بن علي ملاحقة الشاعر الذي رفض الانصياع وأبى الانحناء مما كلفه الطرد من العمل والسفر إلى فرنسا. وبعد أن عاد في مطلع التسعينيات إلى تونس كانت في جرابه فكرة تأسيس بيت للشعر التي تحققت عام 1993 .
وإن حاول النظام خطب ود الشاعر الثائر فقد رفض أولاد أحمد جائزة الاستحقاق الثقافي من الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عام 1993 تكريما له على تأسيس بيت الشعر التونسي. وفي سنة 2011، حصل الصغير أولاد حمد على جائزة قرطاج العالمية للشعر عام 2011 وذلك في إطار الملتقى التونسي الإسباني الأول للثقافة.
وداعا الصغير أولاد أحمد وعزاء كبيرا يا تونس الثكلى فالخسارة كبيرة أمام فقدان شاعر هو كالموت والولادة لا يعاد مرتين!