هذه «الجريمة» فكان بأحد شوارع العاصمة أين تباع على قارعة الطريق الأشياء المستعملة وسقط المتاع... هناك تم التفريط في سيناريوهات أفلام تونسية بسعر زهيد مما يعكس الواقع التعيس للأرشيف السينمائي في بلد الطاهر شريعة. فكيف خرجت هذه السيناريوهات من مصالح وزارة الشؤون الثقافية لتؤول إلى «الشارع»؟ ومن المسؤول؟
لم يدر في خلد أي من السينمائيين أن السيناريو الذي يهدهدونه كالرضيع ويعتنون به كالتحفة الثمينة حتى يفوز بمنح الدعم والمساعدة على الإنتاج عند تقديمه إلى إدارة السينما بوزارة الثقافة تكون نهايته قارعة الطريق!
سيناريو فيلم كامل بدينار واحد !
كانت المفاجأة بحجم الكارثة حين كانت الاستفاقة على شهادة موثقة حول بيع سيناريوهات أفلام تونسية على قارعة الطريق. فهذا المنتوج الثقافي هو أوّلا وقبل كل شيء عصارة جهد وبحث وتعب استغرق من عمر أصحابه شهورا أو فصولا أو سنوات... لذلك فإن مثل هذه الممارسة تتضمن اعتداء فاحشا على الفكر البشري والملكية الأدبية.
وفي تتبّع لتفاصيل هذه الواقعة الأليمة، كان لـ «المغرب» اتصال بالمصور الفوتغرافي «حمدي بوصويبع» الذي عثر على سيناريوهات أفلام تونسية معروضة للبيع في الشارع وتحديدا على مستوى «نهج سالين» بالعاصمة. وقد روى هذا الفنان حيثيات الحادثة كالآتي:» حملتني الصدفة ذات يوم من سنة 2011 إلى نهج سالين بالعاصمة أين عثرت على رجل مسن يبيع مجموعة من النشريات على قارعة الطريق. فاسترعى انتباهي وجود ملفات لمشاريع أفلام تونسية مما أصابني بالذهول خصوصا وإني وجدت لدى تصفحها سيناريوهات كاملة مع تفاصيلها الفنية والمالية كاملة ! فلم أتردد في اقتنائها كلها ومعها وثائق أخرى على غرار مطالب دعم على الإنتاج بثمن زهيد لا يتجاوز الدينار للسيناريو الواحد. واحتفظت بهذه الوثائق السينمائية في مكتبتي الخاصة التي بقيت لسنوات رهن عدم الاستقرار إلى أن عاودت منذ أيام ترتيب مكتبتي ومعاودة العثور على سيناريوهات الأفلام المذكورة. فأقدمت على الإشارة للحكاية مؤخرا على صفحتي الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي «فايس بوك» بتشجيع من صديقة لي صدمها حال الأرشيف الفني في بلادنا كما صدمني وآلمني ...»
فنان عثر على الأرشيف فأعاده إلى الوزارة
وعن مدى تفاعل أهل الفن السابع سيّما أصحاب المشاريع المعروضة للبيع على قارعة الطريق أفاد حمادي بوصويبع قائلا: «اشتريت 8 سيناريوهات بثمانية دنانير أي بدينار للسيناريو الواحد منذ سنوات واحتفظت بها على أمل إعادتها إلى أصحابها ذات يوم خصوصا وأن ظرف البلاد في سنة 2011 لم يكن مناسبا لطرح الموضوع وقتها ... واليوم كان السيناريست «لسعد بن حسين» هو الوحيد الذي اتصل بي وعبّر لي عن ألمه لما آل إليه حال الأرشيف في بلادنا شاكرا إياي على البادرة التي قمت بها... أمّا البقية فلم يبلغني منهم إلا الصمت! «
ومن المفارقات المبكية المضحكة أن عناوين السيناريوهات التي عرضت للبيع على قارعة الطريق بأثمان بخسة ومهينة تعود إلى أسماء شهيرة وكبيرة في عالم السينما التونسية على غرار سلمى بكار ورضا الباهي ومعز كمون ...ولاشك أن الإساءة واحدة سواء تعلقت بمخرجي هذه الأفلام أو بكتاب السيناريوهات التي ولدت من رحم الإبداع لتنتهي عند قارعة الطريق.
أما بخصوص موقف وزارة الشؤون الثقافية وهي المسؤولة بالدرجة الأولى عن هذه «الفضيحة» فقد أفاد الفنان حمادي بوصويبع:» زارني المتفقد الأوّل بالوزارة «غسان لاغة» في بيتي في مدينة الحمامات للتحري تفاصيل الواقعة... فأبلغته أني على استعداد لتسليم الوثائق التي بحوزتي إلى سلطة الإشراف مجانا ودون أي مقابل. وكان أن قابلت الوزير محمد زين العابدين بمقر الوزارة يوم 5 جويلية الجاري وسلمته الأمانة التي حفظتها لسنوات من عبث قارعة الطريق...».
الوزارة تفتح تحقيقا... وبعد؟
أمام الإساءة الكبرى التي لحقت من قريب أو بعيد الحقل السينمائي والثقافي عموما أمام الإهمال المهين للأرشيف السينمائي وتهاون سلطة الإشراف في الحفاظ على الجهد الفكري للأفراد وعلى ذاكرة الوطن، أعلنت وزارة الشؤون الثقافية أن الوزير محمد زين العابدين «أذن بفتح تحقيق من قبل التفقدية العامة للوزارة للتحري في الادعاء بوجود مجموعة من سيناريوهات أفلام تونسية أودعت بإدارة السينما بالوزارة معروضة للبيع على قارعة الطريق». ويأتي الإذن بفتح هذا التحقيق، وفق بلاغ الوزارة ، بعد الاطلاع على الأمر عدد 1875 المؤرخ في 7 أكتوبر 1996 المتعلق بتنظيم وزارة الثقافة وخاصة الفصل 18 منه.
وبالعودة إلى الفصل 18 فإنه ينص على أنه «يمكن لباعث مشروع لم توافق عليه لجنة التشجيع على الإنتاج السينمائي أن يعرضه عليها من جديد في دورة لاحقة بشرط أن يكون قد أعيدت صياغته. وينبغي أن يكون مصحوبا بمذكرة تشرح، بأقصى دقة ممكنة، الإضافات التي أدخلت على السيناريو السابق. وفي كل الحالات لا يمكن للجنة التشجيع على الإنتاج السينمائي أن تدرس مشروعا أكثر من مرتين.» وهو ما يعني أن التفويت في مشاريع الأفلام لتنتهي على قارعة الطريق يتضمن اعتداء على حقوق الملكية الأدبية والفكرية...!
وقد سعت «المغرب» لمعرفة الجديد في هذا التحقيق الذي تم فتحه منذ 20 جوان الماضي والطرف المسؤول عن هذه الجريمة التي يعاقب عليها القانون، فكان رد مديرة إدارة السينما بوزارة الشؤون الثقافية منيرة بن حليمة كالآتي: «باعتبار إصدار الإذن لدى مصالح التفقدية العامة بالوزارة للقيام بمهمة التحقيق في موضوع وجود سيناريوهات على قارعة الطريق» لايمكن استباق نتائج التحقيق حتى حين انتهاء المهمة...عندها ستتحدد المسؤوليات وسيتم نشر نتائج التحقيق».
وإلى حين انتهاء تحقيق وزارة الشؤون الثقافية وتحديد المسؤوليات المتورطة في هذه «الجريمة» المعنوية والأخلاقية التي يدينها القانون يبقى الأمل ألا يطول هذا التحقيق عن الأمد المطلوب حتى لا تغيب الحقيقة في سراديب الإهمال واللامبالاة ...
وعسى أن تكون هذه الواقعة الأليمة عبرة ودرسا للاستفاقة من الغيبوبة والالتفاتة إلى أرشيفنا المهمل هنا وهناك..وحتى على قارعة الطريق !