على «مُعَلّقة اُلْـحُريّـة» أودّعُ قُراء «جَريدة المغْرب» اُلْـــغرّاء : (هل الكتابةُ عن الـحُريّة أجْمل من الـْحُرية ذاتها حين نظفر بها جارحَة و جَريحَة )؟

•  اشارة  من فوكنر: إن الماضي لاَ يـَموت بلْ إنّه لا يمضي
• اشارة من الميراث الصيني: حتى الثعلَب النائم يحصى الدّجاج في  أحلامه


      
(1)
 
أنا أتناسى ولا أنسى...
 ولا معنى عندي للتسامح و الصّفح و الغفران مع النّسيان . الذين ينسون هم مرضى ذاكرة لا غير ... وأنا ذاكرتي وقّادة ... أعرف تفاصيل ما وقع معي في الوطن الوقور منذ طفولتي الهشة إلى كهولتي المرحة  مرورا بالجامعة التي أجمع أهلها على قتل التفكير الحر في أدمغة الطالبات والطلاب . أزاول حياتي بحرية لا تخلو من ألم وقلق من الشأن العاطفي العام في  البلاد ...
كنت أسْتَمَع  إلى أشْعَار من العَالم اقْتنصْتُها مِن جِنان جِبْريل اُلْرّقْمى جوجل , مَلاك النت اُلْمُبجّل ,  كَما هيّ عَادتي حينَ يشْتطّ بيّ اُلْقلق واُلْسأم منْ طوفان اُلْمكُرور اُلْيومي من اُلْمَناحَات اُلْتي يُطْلقها آل اُلْفياس بوك في شَأْن هذا اُلْشّأن أو ذاكَ منْ هُنا وهُناك, كما التّرْفيع في ثمَن السّجائر والْمَحْروقات وانْقطاع الماء والكَهرباء  وما شَابهَ ذالك مِنَ اُلْواوات.

(2)

شاءَ ربّ المَسْموعات أنْ يُسْمعني آخر آخر الليل قَصيدا للعَظيم الفرنسي اُلْرائع بول ايليار. قصيد بصوته اُلْحَزين والوقور أعَادني إلى زمني التلمذي هناك في قفصة وحَضَر أصدقائي جَميعهم  من ذاكرتي,  عُشّاق هذه مُعَلقة الإيلياردية في  اُلْمديح البَاسِق, اُلْشّاهِق و اُلْعَالي  للحُريّة. اُلْحُريّة , نعَمْ اُلْحُريّة اُلْتي كُنتُ منْذ زمني  اُلْطّالبي أقُول عنْها مُعلّقة اُلْتونْسيين واُلْتُونِسيات اُلْأبديّة .تذَكّرتُ أنّ منْ بين كتبي التي  نجَت كما نجوتُ من نَارات التجمّع الدستوري الديمقراطي حين حرقوا عليّ بيتي ذات فجر تونسي ,  ثمة كتاب تُحُفة يشتَمل على ترجمات لنصوص من الآداب العالمية : الأجليزية , الامريكية ,الايطالية ,الفرنسية ,الإسبانية ,الأرْدية, التركية..,اليونانية, الأسكندينافية والروسية ..فشَرعْت البَحثَ عنه لأني شككت في كون قصيد بول ايليار الحرية قرأته  منذ زمنٍ طويل جدا مُترجما هناك بالرّغم من أني أعْرف له أكثر من تَرجمة . لم أكُن في حَاجة إلى تلك التّرجمة على الحقيقية, وإنّما أرَدتُ أنْ أمْتَحِنَ ذاكرتي القِرائيّة لا غيْر وشرعت أفكر في ترجمان الأشعار ولماذا لا أترجم ؟   تذكّرت الولادة على دُفعات   وهي مقدمة ابن حورية محمود درويش لمختاراته الشعرية الصادرة عن دار غاليمار الفرنسية  بعنوان دال:
  تَضيقُ بنا اُلْأَرْض.. .فمتى تضيق بنا الأرض ؟ حين حاجة للعدل والحرية والصداقة والحب . هكذا قلت لي. يقول ابن حورية : كم من قصيدةٍ كُبرى قرأنها بأكْثر من ترجمةٍ فلم تكن هي ذاتها , لا بسببِ تعدد مُستويات قَراءتها ,بل بسبب تحكّم المُترجم في مساراتها وطريقة تنفّسها فلم تَعد قصيدة شاعرها فقط بل قصيدة مُترجمها ...كيفَ سنصدّق الشّعر المُترجم اذا ؟ سنصدّق منه ما يتَخفّى, ويتَحفّز للظّهور , ذلك اُلْظلّ المُطلّ من خَلْفِ اُلْكَلمات, ورُبّما ذلك البُعْد الذي يُشير إلى وجُوده ويَحْتجب. هكذا ورد  الأمر في كتاب حيرة العائد .أغلقت الكتاب, كتاب الحيرة وفتحت الكتاب - النفيسة:
الحرية والكرامة الإنسانية : مجموعة أقوال جمَعها وأشرف على ترجمتها من مختلف اللغات في الشرق والغرب محمد زكي عبد القادر .( نشر الكتاب بالاشتراك مع مؤسسة فراكلين للطباعة والنشر . القاهرة - نيويورك 1959 ). آه ظفرت بقصيد الحرية .تحدث صاحب القصيد قال بكونه كتبها في صيف 1941 بينما كان في انجلترا وحين كتابتها رشّح اسم  حبيبته الحبيبة ليكون كلمة خاتمتها  لكنه - كما يقول -  شعر برَغبة عارمَة للتعبير عن حاجته للحُرية وشوقه إليها فكان أن مَهرها باسمها . ونشر القصيد في الشتاء التالي وتمّ تطير آلاف آلاف الآلاف  النسخ منه  من السّماء على أرض فرنسا من قبل  الطياران الملكي قرأت القصيد أكثر من مرّة بيني وبين جُدران غُرفتي وهمْهمتُ : ما أكثر أدوات الإستعباد ..

(3)

ليس ثمة من وداع  للدنيا وأهلها  أجْمل وأجلّ  من اُلْتواصي باُلْعدْل و باُلْـحريّة وباُلْكفّ عن اُلْابْتزاز اُلْعاطفي باسم الله أو   اُلْوَطَن.. أو باسم   الحرية ذاتها .فهل الكتابة عن الحرية أجمل من الحرية ذاتها حين نظفر بها  جَارحة و جَريحة ..؟
 
(4)
    
على صفحات كراساتي حين كنت تلميذا
وفق مكتبي الدراسي , وعلى جدوع الأشجار
وفق الرمال وعلى وجه الثلج نقشت اسمك أيتها الحرية
وفي جميع الصحائف التى قرأتها
وفي الصحائف البيضاء والفارغة
وكذا الصحائف الحمراء بلون الدماء أو الرماد
نقشت اسمك أيتها الحرية
ولا الصور والتماثيل المذهبة
وفق أسلحة المحاربين الشجعان
وعلى تيجان الأقيال والملوك
نقشت اسمك
وفي الأدغال وعلى رقعة الصحراء
وعلى أعشاش الطيور والعوسج الشائك
وعلى أصداء طفولتي التى ولّت
نقشت اسمك أيها الحرية
وعلى عجائب الليالي التي تمرّ
وعلى خبز الأيام الأبيض
وعلى تعاقب الفصول
التي زفّ بعضها إلى بعض
نقشت اسمك أيها الحرية
وفق كل أبسطتي اللازوردية
وعلى بركة الشمس العتيقة
وفوق بحيرة القمر التي تنبض
نقشت اسمك
وعبر المروج التي تمتد إلى الأفق البعيد
وعلى أجنحة الطيور المرفرفة
وعلى الطواحين التى ترسمها الظلال والأشباح
 نقشت اسمك
وفق كل رعشة للفجر الوليد
وعلى تموجات البحر وفوق السفائن المنطلقة
وعلى مناكب الجبال المهزوزة
نقشت أيضا اسمك
وعلى زبد السحب في السماء
وعلى هدير العاصفة
وفوق خيوط المطر الـمِذرار
نقشت اسمك
وعلى أديم الصور والأشكال ,ذات الألق
وعلى ومضات الألوان
وعلى وجه كل حقيقة
نقشت اسمك .
وعلى الطرقات التي استيقظت من رقادها
وفوق المسالك الممتدة هنا وهناك
وعلى الميادين التي تفيض بزحامها
نقشت اسمك
وعلى المصباح الذي يضيء
وعلى المصباح ذوى
وعلى منازلي تجمعت من جديد
نقشت اسمك أيها الحرية
وعلى كل فاكهة شطرتها شطرين
وعلى بريق مرآتي وفوق جدران حجرتي
وعلى وسائد فراشي الخالي
نقشت اسمك
وعلى كلبي الشره الرقيق
وفوق آذانه المدرّبة
وعلى مخلبه الغليظ
نقشت اسمك
وعلى مصراع بابي المهتز
وعلى كل مألوف من الأشياء
وعلى ألسنة النيران المباركة
نقشت اسمك
وعلى كل الأجساد المشدودة كالأوتار
وفوق جباه أصدقائي
وعلى كل يد تنبسط وتمتد
نقشت اسمك أيتها الحرية
وعلى نافذة المفاجآت
وعلى الشفاه اللطيفة
التي تعلو على الصمت
نقشت اسمك
وعلى مثواي الذي أضحى أنقاضا
وعلى حطام معالمي التي تهديني الطريق
وعلى جدران همومي
نقشت اسمك
وعلى ظلال غيبتي التي لم أشأها
وعلى عزلتي العارية
وعلى خطوات الموت نفسها
نقشت اسمك 
وعلى صحتي التي استعدتها
وعلى الخطر الذي زال واختفى
وعلى كل رجاء لا ذاكرة له
نقشت اسمك
وأخيرا , بفضل القوة التى تبثها في نفسي الكلمة
سأبدأ من جديد حياتي
فلقدْ ولدت لأعرفك
ولأعطي لك اسما :
الحرية.
(5)
 
هل ثمة وداع أجمل من هذا الوداع الوديع ؟
 الوداع لا يفترض النسيان المرضي بل تحيين لممكن من الممكنات  المغفول عنها بوعي ودون شعور أحيانا . والتذكر هو لحظة مكاشفة شعرية   تعيشها الذاكرة الجريحة والمرحة  الواعية بحدودها : لا بستطيع الشاعر أن بتحرر من شرطه التاريخي .لكن الشعر يوفر لنا هامش حرية وتعويضا مجازيا عن عجزنا عن تغيير الواقع ويشدّنا إلى لغة أعلى من الشروط التي تقيدنا وتُعرقل الإنسجام مع وجودنا الإنساني وقد يساعدنا_ الشعر _ على فهم الذات بتحريرها مما يعيق تحليقها الحر في فضاء بلا ضفاف .
لا أعرف أيها الدرويش  الحبيب  إن أنا   حلّقْت   أو وَقَعْت.. المهمّ أني تشجعتُ   سُعِدتُ  حين شدّ الشعر كما الفلسفة من أزري  بمسك عمودي الفقري لئلا ينكسر حين رغب إخوتي كسر ظهري وخاطري.. وسعادتي لا تُصرف في الماضي ...
سلام يا أهل  المشارق . والمغارب . وداعا... وداعٌ  وديع «جريدة المغرب» الغراء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115