« الرصيف
بيتٌ لي
حين تخونُ بيوت اُلْقَصيدة» (ص72)
(2)
حين يعجّلُ الخَريفُ بإسقاط أوْراق شجر « ثورة الربيع»..تكون «الأمّة» تاريخا وعقْلا وعاطفة قد «جُنّتْ فصولها» واُنقَلبت سَوافيها على عوافيها, يكون القلق الوجودي قد استحوذ على خارطة الذات والمكان . حين يمسّ الأرَقُ شِغافَ قَلْب الواحِد من الخلق مثلي آخر الليل التونسي , يتحَسّسُ جسَده النّحيف ليتهجّى وضعه الصحيّ العام والعاطفي اُلْـخاص إنْ هو على أحْسن ما يمكِن أن يـُرام بَعْد أن يكون قَد تأكدَ للتوّ بكَوْنه لا يـَزالُ كائنا في اُلْكون, وأنه هنا في أرض جلد الغَزال تونس, لم تنته بعد صلاحية شهادة ميلاده ... هو الشّاهد على شهادة ميلاد اسْتنبات شجرة «الثّورة التونسية و«فلاحتها البَعْليّة». الشّعور بالغِبطة أو اليأس أو اُرتباك العواطف وتَصارعها في أعماق الذات الفردية والجماعية في المنعطفات ألكبري من تاريخ الحياة والتّعاصُفِ بينها ( كما صراع الحبّ والكراهية ) كان دائما وراءَ اُجتراح النّصوص الأدبية والأعْمال الجمالية أو تلقيها بالإقبال عليها كما أنا الآن عند هذا الفجر السّاحلي التونسي مددت يدي إلى أقرب كتاب تقع عليه أناملي لأهربّ نفسي بعيدا عن أرض وسماء قلقي الشّخصي وشاءت حكمة أناملي أن يكون الكتاب المهروب إليه من قلقي وحُزني وقَرفي ديوان شقيقي الحبري وفق عبارتي العزيزة عليّ, كتاب « موسيقى الأمكنة» (دار زينب 2015) للشّاعر التونسي الحر رياض الشرايطي الذي كنت قرأت دواوينه السّباقة: «مواقيت», «جاءت لتقول», «نوافذ» و«لا أحَد كان خَارجي».
في الفن مطلق الفن «كل شيء ممكن كما كسر قانون الجاذبية وسلطة العلاقات السببية , وفتح المسْتغْلق الواقعي واُلإجتماعي السياسي والانضباطي الصّارم هو ما يُــكْسب هذا النّشاط البشري فاعليته الجميلة والخطرة التي من شأنها أن توسّع جغرافيا المحلوم به انسانيا كأن يعتمد ما يسمى «الحشو الكوميدي» مثلا ليقول للمخاطبين ثمة «رجلٌ في رأسْه شجرة» كما في (كتاب : كُلنا نُولد مُصابين باُلْغَثيان للشاعر راسل إدسن - ص 153) . ومثل عبارة «رجلٌ في رأسْه شجرة» يمكن أن تكون يمثابة « البيان الشّعري » للسيد الشاعر لينبه من يعنيه القول إلى « اُختياره » اُلبَصري فإن قبله هذا المتلقي فقَدْ قَبله وإنْ لم يقْبله فهو قد كُتب لسواه . اذا صح هذا «التأشير» العام فما هو «البيان الشعري» الذي للسيد الشاعر رياض الشرايطي في ديوان «موسيقي الأمكنة»؟ أفترض شخصيا أن أغْلب الدّواوين الشّعرية تتضمن تصريحا أو تلميحا «بيانها الشعري الخاص» الذي يستلزم الإصغاء إليه كاملا غير مبتور اذ يمكن للقارئ مثلي أن يكون مجرد « دليل سياحي» للتجوال الممكن مع الشّاعر في أمْكنة وطنه , وطن الشّاعر- مدنه - هوّ العارف بتاريخ مَسرّاتها وأوْجاعها ,هو حين يكتُبُ عنها يكْتب ذاته في ذاتها تلك المدن في وحْدتها وتشتتها . المدن ليست مجرد ذرّات فيزيائية ووقائع جعرافية وابتكارات هندسية وإنما هيّ كذلك وأيضا مرجعيات وعقود ومعاجم ومدونات عاطفية . وهذا « البيان الشعري » السيد الشاعر الحر : رياض الشرايطي:
(3)
عمت مساء يا ظلّي المنتشر على خدود الأبواب المغلقة
عمت مساء يا قلمي ،
يا دمي المسفوك على فوهة ورقي ،
عمت مساء ،
مدجّج بفراغ تبغي و قفر كاسي ،
أقرأ نعيق أناي ،
فأجدني متلعثما قدّام أوّل خطاي ،
عمت مساء يا أوّل خطاي ،
يا قرينة قهري ، و مداي ،
عمت مساء ،،
متشبّثا بغباري ،
بطاولتي ،
بغربتي ،
عمت مساء يا مدينة تأنّق فيها الحريق حين ابتدأ ،
و شهيد مضرج بالرّصاص حين انطلق ،
عمت مساء أيّها الشّهيد ،
أيّها العابر أقواس القتل المجّانيّ ، لزهر القصبة ،
تغسل أشفار الوطن بدمّ ناصع العشق ،
عمت مساء يا دمه الرّصين كالرّيح ،
يا دمه الشّاق، المشتقّ من قمّة النّهار ،
عمت مساء ، يا هتاف العابر في طيوب المعنى ،
يا فيالق نجوم تتدافع عند مدخل البلاد ،،،
خزائن الشّهوات ،
أعضاء قشرة النّار ،
أفرغت في مهبل انفجار الضوء ،
عمت مساء يا أيّها الضوء / الموت ،
مات الذي مات ،
ومازال حيّ الذي زال،
يصطحب فصلا مكتظا بي يحميني من أمسي،
ينزل مكتملا كما صفصافة البدر ،
على نسل شهب جاءت من مرابض الورد ،
فعمت مساء أيّها الحيّ الذي زال و مازال ،
أيّها الدّالف من جرح هائم في صحائفي يجمّع أنحائي
و يبثّني في طريق تتعشّق ماء مطلوق المدى ،
فأهيّئ صوتي لإنشاد أسرار الصّباح و النّدى ،
فعمتم صَباحا يا أنْتم ، و أنا»...
(4)
« لاَ بلــَد لي
سوى اُسم أطُلقه على اُلْـحـَمامِ
ثُـمّ أتْبَعــــهُ « هكذا يقول السيد الشاعر . يستحضر ديوان » موسيقى «الأمكنة» من مدن الوطن كما وردت مرتبة في سفر الديوان : باجة - سوسة - قفصة -القيروان القصرين سليانة - سيدي بوزيد - توزر صفاقس - تونس - المنستير - جندوبة - بنزت - زغوان قابس - قبلي - الكاف - المهدية - مدنين - نابل .
بين استحضار المدن وشقيقاتها يتخلل الديوان «تلوبحات » شعرية كما بين استحضار مدينتي «صفاقس» وتونس مثلا نصوص من مثل «حزمة أولى من مناشدات لي وله» ونص « خرافة » (ص 34-31).
حزمة أولى من منـــا شدات لي و له
• مناشدة أولى:
الكلّ أكل الآن من كتف الشّهرة ،
والكلّ أناشد أن يتركوا نزرا قليلا
لشعب ما ملّ فواتير الدمّ و السّجن ،
شعب مازال كعادته خارج أسوار الحزب ،،،
• مناشدة ثانية:
كضائع في شعاب شارع مشوّش الإتّجاه ،
أناشد شعبا ، شديد الإنتباه ،
إلى من يشيّد من جديد شُعَبٍ
لطمس دمّ الشّهداء ،،،
• مناشدة ثالثة:
الشّاعر يناشد كعادته ،
شمسا سطوعا ،
أن تدفئ أبناء البلد ،،،
• مناشدة رابعة:
أناشد العابثات والعابثين،
المشعوذات والمشعوذين،
المنزلقات والمنزلقين،
المستجمعات والمستجمعين،
أن يفوتوا في عجل
إلى مثوى الصّامتات و الصّامتين،،»
(5)
بين «كتابة» العاطفي والسياسي يتوزّع ديوان «موسيقي الأمكنة» للشاعر التونسي رياض الشرايطي الحر شخْصا ونـصا وإهداء دال على الحال والأحوال: «إلى حبيتي وشقيقة الرّوح والدّم: ثُــريا». آه تذكرت كتاب العظيم غاستون باشلار «جمالية المكان» ... فابتهجت.كتب مقدم «موسيقي الامكنة» اشارة رشيقة تقول ضمن ما تقول: «هكذا سوف يقرأ رياض الشرايطي تاريخ عزّ البلاد ويقرأ كفها , ليس كعرّافٍ . وليس كمؤرخٍ ولكن كَشاعر لكي تكون هذي البلاد عقيدة الأحْفاد . إنها حكاية عِشق شاعر لبلاده «( ص 8) فشكر ا للسيد الشاعر الملّوح وشكرا لصاحب « موسيقى الأمكنة »... والمجد للشعر وللفنون كلها ..