يخلّفون في القلب لوعة وفي النفس حسرة متى اختطفتهم منّا يد المنون لأن في رحيلهم خسارة كبرى وفاجعة مرّة... فكيف للركح أن يزأر وسيدته صاحبة الصوت الهادر والثائر قد غابت إلى الأبد؟ وكيف للمسرح أن يفرح ويرقص ويغنّي للفن والحياة وقد ترجلت فارسته المبدعة ما بين الجنون والجموح..
اهتزت الأوساط الثقافية والفنيّة على فاجعة رحيل الفنانة المسرحية رجاء بن عمار في ساعة متأخرة من ليلة أول أمس، بعد عملية جراحية على القلب لم تكلّل بالنجاح في إحدى مصحات العاصمة.
«مسرح فو»... وقصة كفاح ونضال
لم تكن رجاء بن عمار مجرد اسم عابر في سماء الفن الرابع بل هي المرأة التي اقترن اسمها بالتأسيس والمشروع والتجديد وهي الفنانة التي آمنت بالمسرح كخيار جمالي وفني وكأداة نضال اجتماعية وسياسية... وهي التي كانت تردد دائما أن «الغضب المبني على رفض التهميش والإقصاء والمطالبة بالعدالة هو أساس تجربتها، لذلك اختارت العمل في مهنة لا تجيد سواها..».
بدأت رجاء بن عمّار مشوارها الفني في أواخر ستينيات القرن الماضي انطلاقا من المسرح المدرسي والجامعي ... ونالت لقب واحدة من أهم المجددات في المسرح التونسي، وبرزت كصاحبة مشروع تجديد وتجريب مستمر منذ تأسيسها «مسرح فو» صحبة رفيق دربها وشريك فنّها منصف الصايم عام 1980 قبل أن يستقرا بهما الحلم والمقام بفضاء «مدار قرطاج» في منتصف التسعينات .
ولم يهنأ الثنائي منصف الصايم ورجاء بن عمّار بامتلاك «فضاء مدار» كحاضنة لإرهاصاتهم المسرحية والفنيّة حيث كانت قصة الكفاح والنضال مع النظام... وقد تم غلق الفضاء بضغط من سلطات «بن علي» من سنة 2002 إلى سنة 2009. وبعد الثورة لم تنته المعاناة وتواصلت المعركة بسبب الخلاف مع بلدية قرطاج التي طالبت بتسديد ديون كراء هذا الفضاء .. وأمام شراسة رجاء بن عمار في الدفاع عن حلم عمرها المهدد بالغلق، تدخل وزير الثقافة وقتها مراد الصقلي وقرر أن تتحمّل الوزارة تسديد ديون رجاء بن عمار ومنصف الصائم لبلدية قرطاج حتى لا يندثر «مسرح فو» ولا يُرمى بالإبداع على قارعة الطريق ...
فنانة جامحة ومبدعة ثائرة
هي المرأة التي تصدح بموقفها عاليا دون مهادنة أو مجاملة، وهي الفنانة الحاملة لرسالة ومشروع، هي المبدعة الحالمة والثائرة والجامحة... وكانت رجاء بن عمٌار من أوائل الذين أسسوا في تونس لتجربة الرقص المسرحي وقد تتلمذ على يديها أغلب الكوريغرافيين التونسيين فقد كان الجسد هو جوهر عملها المسرحي ونقطة ارتكاز حلمها الإبداعي .. .
ومن الصولات والجولات التي سيذكرها التاريخ كلما جاءت سيرة الفنانة راحلة رجاء بن عمّار هي مشاركتها في الثورة التونسية وتعرضها للعنف والاعتداء من طرف رجال الأمن أثناء انضمامها إلي وقفة احتجاجية أمام المسرح البلدي وسط العاصمة في مساندة للتحركات النضالية في سيدي بوزيد والقصرين...
هـي صاحبـــة الحوارات الإشكالية فوق الركح التي تحوّلت إلى سجالات ومعارك خارج الخشبة مما اضطرها في أكثر من مرّة إلى مغادرة البلاد في عهد الرئيس زين العابدين بن علي والاستقرار المؤقت في القاهرة وبيروت... فلم تكن تهاب من الصدح بمواقفها الصريحة من الاستبداد قبل الثورة كما لم تتوانى عن توجيه أصابع النقد إلى سياسات العهد الجديد في دفاع شرس عن شعارات الثورة التونسية...
هــي المبدعـــة الشاملة التي اتخذت من الخشبة حلبة ملاكمة، وهي المولعة بالركح المفتوح والتفاعلي مع الجمهور، وهي المسخرّة لفنون الفرجة كأداة للتمرّد والاحتجاج... فمن يواسي المسرح في فقدان سيدته وملكته وحبيبته رجاء بن عمّار؟
مسرحيات خالدة في مسيرة رجاء بن عمّار
تضج مسيرة الفنانة الراحلة رجاء بن عمار بالصخب والثراء والتنوع وهي التي أقنعت في التمثيل وأبدعت في الإخراج... قدّمت رجاء بن عمّار أعمالا مسرحية متنوّعة منها «الأمل » (1986) - «ساكن في حيّ السيدة» (1989) - «بيّاع الهوى» (1995) - «فاوست» (1997)- «وراء السكة» (2001) - «هوى وطني» (2005) -«فايسبوك» (2012)- «طبّة» (2015)... وكانت آخر أعمال الراحلة من إنتاج المسرح الوطني بعنوان «نافذة على...» وقد افتتحت هذه المسرحية مهرجان الحمامات الدولي في السنة الفارطة.