أرشاق: همّشُوكَ... قـلْ لنَفْسِكَ : أنْتَ المرْكَــزُ واُلْـمــحُيط أبها التُّونسي اُلْنبيل (ذات الشاعر في ديوان «سفر العاشقِ» للطّيب براري)

• اشارة من السيد الشاعر:

«يسْقط ربيعُنا مُضرّجا في دمه القَاني
ندْفن بذوره في آخر ما تبقّى لنَا من تُراب»

(1)

« لستُ وَحيدا مَع وحْدَتي» . آه لستُ وحيدا... تقول رائعةُ اُلْرائع جُورج مُوسْتاكي. بقيتْ هذه اُلْعبارة بشَوارِد أنْغامها تُلاطِفني عند هذا الفَجْر السّاحلي التّونسي فسرَتْ في مَفاصلي قُشعريرة مَشارِقُ أنوارِ فرَحٍ غامضٍ المأتى ... لم أجِدْ سَببا واضِحا لهذا الفَرح الذي هَدْهَدَني أنا الذي منذُ يومين فقَطْ فقدْتُ ذاكرتي الرّقْـمية إذ تـَمتْ سَرقة «لوحتي الرقمية» من بيتي في غيابي و«حاسوبي» الذي كانت «تميمته» صورة الشهيد العتيد «شكري بلعيد». سَرقة تمتّ ببيتي في غيابي... سريعا طرحتُ مسألة البحْثِ في المسُبّــبات والأسْباب جانبا وبقيتُ واقفا أُسرّح اُلْنّظر في مَكتوب شاعر تونسي لا هوّ حقيقةً من أصْدقائي ولا هوّ من أقْرب مَعارفي. وَحْدها «الصُدفة الورقيّة» قادَت بصري وأنامِلي إلى هذا الكتاب الذي بمجَرد مُفاتحته حين فتَحتُه معْكوسا من خواتمه صَادَفتني اُلعِبارة التي هَزتْـني بلينٍ وشَفَقَةٍ, عبارة «لستُ وحيدا مع وحْدتي...» أنه ديوان «سِفر العاشق» للسيد الشّاعر اُلْتّونسي الطيب براري. قلبت الديوان عند أوله فكانت المفاجأة إذ هو هدية بها إهْداء من أنامل السيد الشّاعر كتبها في «الورقة الحارسة» لمتْن الكِتاب: («رفيق الكلمة سليم, أهْدي إليك كِتابي» سفر العَاشق, سِفر الفقر والثّورة والبَحْث عن ينابيع اُلْصّفاء الأولى. كل لحْظة وأنت سليم .تونس 9 - 1 2015-).
حين هذا الحين تمكلّني شعورٌ غريبٌ هو أخْلاطٌ من الفَرح الممْزوج بالحُزن الممْزوج بالألم الممْزوج بالنّدَم واُلّْـحياء, الشّعور بالحياء والحِشْمة تحديدا لعدم استجابتي لنداء الواجب الحبري بالوقوف إلى جانب شاعرٍ تونسي هو شقيقٌ في التّراب والحِبر اُلـْحـُر والنشيد الوطني ينْزف أَلـما وَحبّا وشِعْرا في كِتاب الوطن .ديوان «سِفر العَاشِق» للسيد الشاعر الطيب براري صدر في تونس في طبعته الأولى سنة 2008. آه أين كان «نجوم الشّعر» التونسي «الثوري» اليوم عند هذا التاريخ من تاريخ ثقافة الوطن..؟ ماذا كانوا يفْعلون ..؟ ويَكْتبون ؟ وإلى أي «الأحزاب ينتمون ...؟ وأين ينْشدون....؟ ومنْ يُناشدون ...؟ قلتُ لي مُستدركا على نفسي: دعْك من مثل هذه الأسئلة المكروهة وتسلّح «بحيّل» شارلوك هولمز «ورافِق» ذات الشّاعر «الجَوال التروبادوري» العاطفي في حلّها و تِرحالاتـها الحبرية - لحظة واحدة - فكان ما كان من «انسلاخي» الشّخْصي حين التسفار في «سفر العاشق», انسْلاخي عن زمني الحسّي بانخراطي الكُلي في «الزّمن الجمالي» للسيد الشاعر. أليست كل «قراءة عاشقة» هي في اُلْـجَوْهر والعَرض بمثابة «طقْس عُبور» مع «لذّة النّص» وأنّ مكْتوب الكِتاب الذي لا يٌعْجبك أنت عيْنك إياك فهْو قد كُتِبَ لِسواك... أليست هذه هي ما يمكن لي تسميته «ديمقراطية الأذْواق». نعم ثقافة وبيداغوجيا «دمَقْرطة الذائقة» واجبٌ جمالي - حضاري ثوري حقيقي ضدّ استبداد العَينِ الواحِدة واُلأذُن الواحِدة واللّسان الواحِد.

(2)

يفتتح السيد الشاعر الطيب براري ديوانه «سفر العاشق» بشَذرةٍ هيّ عتَبة فاتحة تقول: «كثيرا ما يكْذِبُ الشّعراء... لكنّهم كثيرا ما يكْذبون بكلّ صِدْقٍ».الشّعْر في تـمثّل الشاعر ابن «مفارقة», مُفارقة «الكَذِبِ الصّادق» كما هو تعريف «الحُب» على نحْو من الأنحاء عند ابن حورية محمود درويش: «الحب كذبتنا الصادقة». فليكن الشعر سليل الشعور هو «الصدّقُ في الكَذب». فهل أن السيد الشاعر كذب بصدق حين كتب لأمه ضمن ما كتب مثلا؟:

من غيرك أمي؟

كلما تجاهلني الأهل - يظل صباحا مساء - يهتف باسمي
- يا طيّب
يا طفلي البكر الذي لم يكبر تعالى فلي رغبة في حملك ثانية كما كنتَ جَنينا في رحَمي .يا طفلي المتأرجح بين الوَهـْمِ واُلْوهْـم كم أخاف عليك من سطوة الأحزان والهمّ .

كم أخاف عليك إن متّ
من فقر العواطف واليتم

(...)

عفوك يا طفلي
هدني الداء واستقر في عظمي

(...)
تركت لك في محراب الحنان شمعة
تضئ زواياك حين يأفل نجمي ».
أنا أصدق صدق ما تقول الأم _ وان على لسان شاعرها - حول حقيقة «هوية الشاعر» التي يحددها « الوعي باليتم » و«الشعور بالهشاشة» بين الأهل والوطن في غياب الأم .
هل «يكذب بصدق» طفل أمّه «المتأرجح بين الوَهـْمِ واُلْوهْـم» حين يكتب (( أعراس بغداد 1991)) مثلا « تطير الطائرات من جنوب البلاد إلى شمال البلاد .
دقيقتين فقط .
ما أقصر المسافة بين الظّهران وبغداد».

(3)

مسني «حزن صادق» أحسست معه بتشقق في بعض عظام رجلي اليمنى حين قرأت «بكل ألوان الوطن» المكتوب المهدى إلى الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شمّوط. يقول المكتوب ضمن ما يقول:
« حتى وجوهنا لا تشبهنا
كما نراها في عيون الآخرين
لا شيء يرسمنا كما نحن ...
ولا مرايا تعكسنا كما أردنا أن نكون
يسقط ربيعنا مُضرجا في دمه القَاني
ندْفن بذوره في آخر ما تبقّى لنا من تراب
نقول بحكمة البُسَطاء :
لن تتوقف الحياة هنا»

(4)

قُلْتُ لي وقد أصبحت مع «الديوان» «وأصبح الملك لله» كالمخاطب نفْسه مـُخاطبا السيد الشّاعر صاحب «سفر العاشق» الطيب براري: إنْ همّشُوكَ وقد همّشوك ... قـلْ لنَفْسِكَ: أنْتَ المرْكَــزُ واُلْـمــحُيط أيّــها التُّونسي اُلْنبيل. والمجد يبقى المجْد لتُونس... الوطن بوْصلة العَقل الخلاّق والقلْب الرّهيف رغم مُدَونات المحن وكلّ المجدِ للفُنون وللفنّانين «الصّادقين» وإنْ لا «معْنى للصّدْق» والكَذِب في الفن. دُمتَ شاعرا حُرا أيها السيد الشاعر كما أنت. أعْتذر لك نيابة عنْ نفسي وعن «الوطن» ان سمح لي أهْل الوَطِن ... وكفى.

« لسْتُ وحْدي واحِدا
لكنني قبيلة عُشاقٍ تفيض بالحياة
وتعجّ بالصّهيل
والصّراخ
والهمس
والصّخب»
فليكن ...فليكن ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115