والفاضل الخنوسي، ومحمد السعيدي، وشهاب مقداد، وقدم هذا العرض بمركز الفنون الدرامية والركحية، امام الجمهور نهاية الاسبوع الماضي...
ويندرج هذا العمل في اطار القص الشعبي الغنائي، أو الرواية الشفاهية الغنائية، التي يلعب فيها الحكواتي وراوي السيرة دور البطل الحقيقي، لأداء روايتها، وقد برز كمال البوزيدي خلال العرض كمبدع قادر على ابداع روايته، بما يمتلكه من لحن واداء خاص، وقدرة على تعويض السهو والنسيان بالفطرة وسرعة البديهة، بالاضافة الى قدرته على الالتحام المباشر مع الجمهور، والتأثير فيه، وباختصار فقد كان كمال البوزيدي الحكواتي الذي يمتلك ادواته ويعيها جيدا وخلال العرض مسيطرا على الجمهور الذي كان في الموعد، لدعم وتشجيع مثل هذه الاعمال، وهذا ليس بغريب على جمهور المسرح بجهة قفصة.
وبدوره استفاد المنشد عماد الحناشي من خبرته وتجربته مع فرقة الانشاد الديني، ليساهم وبقسط وافر في انجاح العرض من خلال اداء بعض الاشعار والاقاويل والاغاني، في انسجام، تام حيث اثرت مختلف مداخلاته من التراث الموسيقي التونسي الوضعيات الدرامية، التي وردت في ثنايا الرواية، دون ان ننسى الفريق التقني الذي حرص على الجانب الفني، لا سيما الاضاءة والمؤثرات الصوتية، دون خلل ولا ارباك للحكواتي والمنشد على الركح.
يا من صبر صبري على جنات، وبداية الحكاية
وقد انطلقت بداية العرض، بذكر الله والاستغفار، والصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو المدخل التقليدي لعموم رواة السيرة الشعبية، ثم واصل الحكواتي، اصل الحكاية، حكاية «جنات» العاشقة في زمن كان فيه الحب يخضع لمنطق وتقاليد القبيلة، المنغلقة على نفسها والمعتزة بمكانتها وشرفها، وسعيها الى الثأر كلما داس لها البعض عن طرف، او حاول التدخل في شؤونها وتعكير صفو الحياة بها، هده الحكاية التي نقلها لنا الرواة والشعراء، فاصبحت اغنية مشهورة، شانها شان عديد الروايات العربية الاخرى، التي اصبحت من الاغاني المشهورة على غرار رواية «حيزية» بالقطر الجزائري والتي تغنى بها الثنائي احمد الخليفي ورابح درياسة، كما في العهود الاولى من خلال روايات، قيس وليلى، وعنتر وعبلة، وهي قصص الحب العذري الصادق.
ورواية «جنات» المستوحاة من التراث الغنائي التونسي، بحث فريق هذا العمل عن قصتها ومصدرها، من خلال محادثات مع بعض الموسيقيين، والمهتمين بالتراث الشفوي، والتي تم من خلالها تناول هذه الملحمة مكتملة الاركان، من حيث المنحى العجائبي والخرافي، الذي امتزج فيه الواقعي بالخيالي وغلب فيه الجانب الاسطوري في اغلب مسيرة الاحداث على الجانب الواقعي، حتى أن الاغنية في حد ذاتها قد طالها الكثير من التحيين، الذي لم يؤثر في شكلها الموسيقي وفي روحها الملحمية، ونظرا لانعدام معرفة اسباب رفض الارتباط بين جنات، ومحبوبها من قبل الرواة، واختلاف الاسباب التي لم تتطابق مع الرواية فقد لجأ المؤلف والحكواتي الى سحر الفن المسرحي، الذي اجاز ترك السبب لفتح المجال، للمستمع / المشاهد، المشاركة في العمل، بتنشيط خياله واطلاقه باحثا عن سبب رفض ذلك الرابط انطلاقا مما استمع اليه، وشاهده، وبالتالي تكوين حلقة نقاش اثر العرض، تنطلق من البحث عن ذاك السبب وتتوسع الى رحاب المسرح العجائبي، يكون متنها فن الخرافة كتعبيرة تشارك فيها كل المجتمعات في انحاء العالم...
وتروي الحكاية، العلاقة العاطفية بين فارس من احدى القبائل، وضعته الصدفة امام فتاة على غاية من الجمال كانت تحتطب، حيث نشأت بينهما ومنذ الوهلة الاولى علاقة حب، اراد الفارس ان يتوجها بالزواج من جنات، بعد رحلة عشق كادت تذهب بحياته، ولما ادركت الام السبب اعلمت زوجها لكنه رفض رفضا قاطعا، فحول الفارس طلبه الى شقيق جنات، لكن موقف هذا الاخير كان اشد رفضا من موقف الاب، ومع مرور الايام كثرت الاقاويل والاشاعات حول العشيقين، ودرءا «للفضيحة» التي لحقت بقبيلة جنات، قرر الشقيق وضع حد لحياة الفارس، ولما تفطنت جنات لذلك ارسلت صديقتها لاعلامه، ونيتها الهروب معه، ولما كان الامر كذلك تنكرت في لباس رجال القبيلة متسترة بظلام الليل، واتجهت لمقابلة فارس احلامها عند سفح الجبل، ولما اقتربت من مكان اللقاء، خيل اليه ان القادم شقيق جنات جاء لقتله فظل في مكمنه حتى اقتربت منه فباغتها من الخلف واطلق النار عليها، وهو لا يدرك أن من قتل ليس سوى جنات...
وقد استفاد هذا العرض من كل اشكال المسرح الفردي، انطلاقا من فن السرد، وصولا الى الاداء الذي لم يكن منغلقا على نفسه باثا فقط، وانما هو اداء منفتح على المتقبل لم يفوت اي مفصل من مفاصل القصة الا وأشرك المستمع / المشاهد حسب ما تقتضيه الوضعية الدرامية الواردة في ثنايا العرض، كل ذلك بلهجة تونسية دارجة تشكلت من المنطوق البدوي بجهة قفصة، والتي لم تخلو من التراكيب اللغوية الجميلة ومن الصور الحكائية العميقة، كما انها لم تنأى عن بعض الصور السردية الكومدية التي تزخر بها اللهجة البدوية التونسية بشكل عام، واختتم عرض الحكواتي «جنات» بمطلع اغنية:
«يا من صبر صبري على جنات
ابكوا معايا وسيلوا الدمعات...»