قد يكون من الصّعب هنا تحليل جميع المجالات التي خاض فيها الكتاب، فكلّ واحد منها يحتاج إلى تمحيص مطوّل ، كما يحتاج إلى ذوي اختصاص لديهم أدوات مناسبة لمناقشة القضايا السياسية والتاريخية والقانونية المطروحة في الكتاب وهي كثيرة. أما نحن فسنكتفي بتقديم ثلاثة عناصر من جملة المعلومات التي تزخر بها مادّته.
أوّل هذه العناصر هو العنصر الإنساني بما هو موقف ديموقراطيّ وأخلاقيّ يؤكّد حقّ الكائن البشريّ في تكييف حياته الخاصّة بالشّكل الذي يرتئيه، ويرمي إلى إكساء المجتمع روح العقل وحريّة التساؤل كلّ بحسب قدراته وميوله. وجميع هذه المعاني ستصادفنا باستشهادات وفيرة في عتبات الكتاب وأولى صفحاته ، معبّرة بصراحة عمّا نذر الكاتب نفسه له من صنوف المقاومة للسّلطة المستبدّة المحتكرة للتصوّر والفعل في الشّأن العامّ مع رفض الآخرين وإجهاض مشاريعهم. بحيث لن يجد القارئ على امتداد الصفحات التي بين يديه سوى عبارات الذّود عن الحقوق والحريّات ،و هي في رأي الكاتب « جوهر الكيان الإنسانيّ وناره المضيئة الباعثة للدّفء»، كما لن يجد سوى الحديث عن الارتقاء الإنسانيّ وتثبيت الكينونة وتأكيد الذّات.
وكان من المفروض أن يأكل الحقد نفس هذا السّجين الذي قاسى الويلات والظّلم بأنواعه ، إلاّ أنّه لم يستسلم له، ولم يحمّل كتابه تعابير النّقمة والكراهية ، لذا نراه يغلّب مشاعره الإنسانيّة ، ويفرّق بين الآمر الظّالم والمأمور المنفّذ الذي يقول عنه « وما السّجّانون إلاّ موظّفين يكتفون بدرء الخطر عن أنفسهم وعن مؤسّستهم ولا يبحثون عن أكثر من ذلك»، بل ويلتقي بعد تسريحه بعضا من سجّاني برج الرّومي فيبادلهم التحيّة بمودّة.
العنصر الثاني اجتماعيّ ومكوّناته هي الأسرة والمدرسة ومدينة بنزرت. فالأسرة المتواضعة الكثيرة الولادات المنزوية في بيت قديم مهترئ ذاقت من شظف العيش وضيق الحال ألوانا يجسّمها الكاتب بعبارات تختصر كلّ العناء الذي شاهده من حياة والديه وهو طفل : « يبدأ عناء الأمّ مع الفجر ولا ينتهي إلاّ بعد العشاء في حركة دائبة وصمود في كلّ الفصول، لا تكلّ ولا ترمي المنديل...والأب يبدأ عمله فجرا ويعود غسقا يجرّ جسدا هدّه التّعب ليتعشّى ممّا أعدّته امرأته ثمّ ينام». من هذا العيش البسيط تعلّم الكاتب مبادىء الانضباط والمواظبة على العمل وتقديس البذل والعطاء، ممّا نفّره من الكسب السّهل والمال الرّخيص. ألم يكن شاهدا صحبة أبيه على نضالات عمّال الميناء النّقابيّة وتعاسة أحوالهم في مواجهة الدّولة المتنكّرة لوعودها؟
في هذا العنصر أيضا تمثّل مدينة بنزرت قصّة هيام عاشق ، ففيها تجسّمت أواصر الارتباط صلب الأحياء، لأنّ الحيّ في رأي الكاتب يمثّل الوحدة الأساسية للتّشكّل الاجتماعي، فنفس الفضاء يقرّر نفس المصير، والاثنان يدفعان معا إلى انسجام وتضامن وتداخل في المصالح. بالمدرسة يكتمل الثلاثيّ المكوّن لهذا العنصر، ففيها انفتحت نفس الكاتب على فضاءات أوسع من الحيّ، وخرجت به الصّداقات الجديدة والأساتذة الممتازون إلى ميادين أكثر ثراء وتألّقا، كالمطالعة والرّياضة والمشادّات السياسيّة، وكلّها بدأت بإرهاصات خفيفة في المعهد الثانوي ، ثم انفتحت على آفاق المعرفة الشّامل بدخول الجامعة الذي كان حلما شخصيّا وتوقا عائليّا ومخرجا اجتماعيّا تتقرّر به كثير من المصائر.
العنصر الثالث الذي نشير إليه في هذه العجالة هو العنصر الوطني الذي تشكّلت في معهد بنزرت الثانوي أولى لبناته وتأسّست مساراته المقبلة، و قوامها رصيدان أساسيان : أحدهما موضوعيّ هو تثمين المواطنة وسعي عنيد لفرض المشاركة الحرّة في الشّأن الوطنيّ. وثانيهما رصيد ذاتيّ تشكّل من الانكسارات الاجتماعية العائليّة القاسية. وبهما تسلّح السّجين ليظلّ ، مهما توالت اعتقالاته، صامدا رابط الجأش في مواجهة الواقع الماثل بآلامه وحرقته واعتداءاته، وعلى شفتيه سؤال لم يجبه عليه أحد : « لماذا يلاقونني بكلّ هذا الحقد؟ ألأنني مارست أبسط واجبات المواطنة الفاعلة؟ ألأنني كرّست التزاما تعلّقت به حياتي ووعيي وتربيتي ومساري ؟».
عرض عبد الواحد براهم