(1)
في عَوْدَةٍ لي إلى مَدينةٍ «سُوسة» الساحليّة الأنيقة رغم نكد «الزمن المتُصَاعِبِ» ذات يوم من الأيام الأواخر من «الشّهر الأحْمر التونسي» كما يحلو لي أن أسميه جانفي 2017. عودتي من سُرّةِ العَاصِمةِ بعد زيارةٍ أرَدْتـُــها أنْ تَكُونَ خَاطِفَة ولم تَكُنْ كَذلك - كما هي عادتي- شَاءَت صُدْفَة المسَافة أن يجْلسَ إلى جانبي في السيارة الآجرة طالبٌ تونسي في قِسم التاريخ (مرحلة ثالثة) جَميل الملامِحِ على جانبٍ كبيرٍ من اللّطْفِ والكِياسَةِ بعد اُلْتحيّة الصباحيّة والتّرحاب بي والترحَاب به فتَح له كتابا كانَ معه كنتُ أتلّهَف شَوقا لمعرفةٍ عنوانه أنا الذي «لا أسْتـَمْسِكُ» أمام الكتب وفق عبارة ابن القارح في «رسالة الغفران» لحكيم المعرة «المغور بتمثاله فأدْرك الطالب الوسيم حَاجتي لمعرفة العُنوان ولأمر غامضٍ أخَذ يلْعب معي لعبة «الإخْفاء والمواربــة»... وفتحتُ كتابا لي كان معي اشتريته ضمن ما اشتريتُ من الكتب من «مكتبة الكتاب» ومن «منشورات الرصيف من أمام «دار الثقافة ابن رشيق» بشارع باريس الشّهير وكذلك وأيضا من «نهج الدّباغين». الكتاب الذي معي حينها قد اصطدته للمرّة الثالثة منذ اكتشفته حين زمني الطالــبي في «كلية الآدب والعلوم الإنسانية 9 أفريل».
(2)
انطلقت الرحلة وتناسى كل منا صاحبه واسترسل في تسريح البصر في أوراق كتابه.وفجأة أخذ «صابر» في الضحك وقال لي وقد تغير صوته وسحنته «خذ اقرأ كل شيء يُباع كل شيء قابل للبيع «الأوطان» و«المؤخرات» والزوجات.. آه كم نحن في حاجة إلى الضّحك منّا علينا ....» وتمتم بكلام آخر لم أتبينه .التزمت الصمت برهة ثم شرعت في القراءة دون أن أكترث بمعرفة العنوان الذي كنت أتحرّق سابقا شوقا لمعرفته أنه («حديث الحاج الذي باع زوجته):
« كان رجل اسمه مزيد يسبق الحجاج في كل عام إلى الحج وكان يأتي الى المدينة في ثلاثة أيام على راحلته فتأخر مرة عن وقته الذي كان يجيء فيه لِعلّةٍ أصَابتْهُ وكان لإمرأته صديق صَوافٌ فلما تأخّر ظنّ الصوّاف أنه قدْ مات فأقام عندها ولم يبرح وجاء «مَزيد» - الزوج - فلما رأى أنه قرب من الباب تطلع من كُوة و إذا الصوّاف مع امرأته في البيت فلم يسْتفتح فمضى إلى المخنثين فدَعاهم (...) وأمرهم فضربوا طبولهم وزمّروا فاجتمع الناس من كل ناحيةٍ فأقبلوا يقولون له: يا أبا إسحاق أشيءٌ حدث؟ فيقول لهم: تزوجتْ امرأتي. (...) فوقف الصوّاف قرب الباب - عشيق الزوجة - وقال لزوجها: يا أبا اسحاق أدْنُ مني أكلّمك فدنا منه فقال له: اتقّ الله في الفَضيحة وأنا أفْتدي منك .فقال له - الزوج المخدوع-: أرددْ عليّ مَـهْرهَا ونفَقتي عليْها فقد أفْسَدتها فقال له: كم ذلك؟فقال له: خمسون دينارا فكتبَ رقعة إلى غلامهِ في السّوق فبعث بها منْ قبض المال وجاء به. فقال الزوج -للناس المجتمعين-: أي بني تفرّقوا انما كنتُ أمزح ثم قنّع رأس الصوّاف بقناع وأنزله وقعَد مع امرأته وسَكت «انهيت قراءة حكاية» الحاج الطحّان « كما سمّاها السيد الطالب التونسي مع بائع الصّوف الزاني.
(3)
قلّبتُ الصفحة خُفية عن «المؤرخ الشاب» واسترسلت في القراءة «قال الجاحظ كان عندنا بالبصرة مُـخنثٌ يجمع بين الرجال والنساء في منزله وكان بعض المهالبة (آل المهلّب) يتَعشّق غُلاما فلم يزل المخنث يتلطّف به حتى أوقعه قال فلقيته من غدٍ وقد بلغني الخبرُ فقلت له: كيف كانت وقعة الجُعْرانَة فقد بلغني خَبرها ؟ فقال: لما تدانى الأقوام وقع الإلتزام ورقّ الكلام والتفّت السّاق بالسّاق ... وانعقد الوصل واتّصل الحبْلُ ... «لم أكذ انهي الحكاية حتى اختطف من السيد الطالب الكتاب وقال أعطني الكتاب الذي معك فسلمته مستسلما الكتاب فأخذ فقرأ العنوان بصوت جميل أسمع جميع الركاب:
كتاب «المرصّع: في الآباء والأمهات والبنين والبنات والأذواء والذوات» ثم صمت قليلا وزاد تأليف مجد الدين المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير والمتوفي سنة 606 للهجرة ثم شرع يقلّب الأوراق كيفما اتفق ليقرأ بصوت مرتفع: «ابن الهَجول: هو ولد الزنا، والهَجول هي الفاجرة، ابن هَــمّ هو الذي لا يقدر أنْ يَدفع الـهم ّ عن نفسه ..
حين هذا الحين توقف «صابر» عن القراءة وأخذ يقول كالمردد بينه وبين نفسه: (أنا ابن الهجول ..وأنا ابن الــهَم)
ثم يصلى على النبي ويواصل القراءة بصوت مُرتفع الى الحد الذي أربكني.
ابن الهَلوك هو ابن البغيّ «بنو هنّام هي قبيلة من الجن».
توقف صابر الطالب التونسي عن القراءة فجأة... وقال سامحني: لقد ذهبت بالأمس لأقابل «صاحب شركة» فأهانوني أمام خطيبتي: أنا مجاز في التاريخ والجغرافيا منذ سنوات. مللت ذلّ البطالة... ثم قلّب أوراق الكتاب كتاب «المرصّع» كيفما اتّفق وقرأ لي سرا:
«أبو حابس هو البَابُ وأبو حاتم هو الكلْب والغراب». أغلق الكتاب وقال لي وهو كالذاهل عن نفسه: أنا قد أغْلقتْ عليّ أمّ حابس الباب..وأنا «الكلب والغُراب»... ارتبكت وحَزنْت وأمطرت داخلي وكتمت دمعي وقلتُ:
له صابر صديقي: لا تحزن عل الله يرسلها غمامة ... وخذ الكتاب هو هدية مني إليك. وتضاحكتُ حين نزلنا من السيارة الآجرة وحين ودعته وقلت له: «كن رجلا أيها التّونسي النبيل وكن بخيلاٍ يا رجل. ثمة في البلاد حرائر وأحرار يقدرون ويقدّرن الصبر والدمع». وغاب وغبت في شوارع مدينة سوسة أردد ما كتب السيد الشاعر الشابي في واحدة من مذكراته. «أنا رجلٌ عَصَبيّ لا أتحمّل الذُلّ ولاَ أسْتطيع أنْ أخمـِد غَضبي فتنْجلي الثّوْرَة عن شَيءٍ جَميل جدا ... الله أدرى بنتاِئجه «كذلك وأيضا بقيت عبارات «صابر» تتردد مع خطاي وتربكُ خطاي: «انه زمن ديانَةُ» فائقِ النّفاق ومُفرط «اُلْخِيانَةِ» و«اُلْنّذالة» و«اُلْعَجْرفَةِ» اُلْصّامَة واُلْصّائــتِة.