الثقافة فعل وليست إرثا

بقلم: د كريمة بريكي
مما تعارف عليه أهل الذكر أنّ اللغات عامة تأخذ من بعضها البعض...ففي كل لغة هناك ‘’الأصيل ‘’وهناك ‘’الدخيل’’ كما يقال وان كنت اشك في متانة

هذا التمييز أو هذا التفريق... ويكفي النظر في العمل الذي وضعه الأستاذ إبراهيم بن مراد في خصوص ما سماه ‘’الكلم الأعجمي في عربية نفزاوة ’’ لنعرف أن لغتنا اليومية فيها الامازيغي والعربي واليوناني واللاتيني والتركي والفرنسي والايطالي والانجليزي فكأنما هي خلاصة تاريخنا برمته ,ولذلك فان التمييز المتعارف علية يفقد أهميته او على الأقل تصبح عملية ثانوية جدا... وأستسمح القارئ الكريم في أن أحيله إلى صفحة الأستاذ الدكتور البشير الأمين أستاذ اللغة الانكليزية بجامعة تونس على «الفايس بوك» ليرى بنفسه مدى انتشار اللغات الأجنبية في كلامنا اليومي وفي جميع اوجه حياتنا.كما استسمحه في الإشارة الى صفحة الأستاذ الدكتور محمد فنطر أستاذ الأجيال في التاريخ القديم ليتعرف على الأصول البعيدة للكثير من معتقداتنا وسلوكاتنا التي لم نتساءل بعد عن لحظات تكونها التاريخي ورسوخها في ثقافتنا اليومية ...

أضف إلى ذلك انه قلّ من ينتبه إلى أن في لغتنا اليومية كلمات دخيلة لم نعد نشعر بأنها دخيلة بحكم الاستعمال والاستمرار فيه مثل موسيقى وجغرافيا أو فيزياء وهي كلمات يونانية ’أو قلم وقرطلّة وهما من اللاتينية والمعاجم التي وضعت في هذا المعني تحتوي على الكثير من الكلمات من هذا القبيل...

فاللغة بشكل ما هي ديوان فكر الأمة والمعبرة عن عقليتها وعن تكون هويتها زمانيا وهي حافظة تاريخها...فالهوية مفهوم ديناميكي بمعنى أنها في صيرورة دائمة كما يقول هيجل, وهي في تغير مستمر .أي إنّ إشكال الهوية هو إشكال تاريخي بامتياز .لذلك أمكن لنا إن نقول إن هوية شعب ما هي انتاج تجاربه التاريخية بما فيها من أنوار وظلال ومن انتصارات ومصاعب.

ومعرفتنا بتاريخنا ستبقى منقوصة نقصا فادحا ما لم نعتن علميا بوضع معجم عربي تاريخي على غرار ما هو موجود عند الفرنسيين والانكليز مثلا باعتبار ان ما يدخل على المعجم من التحويرات التي تمسّ الألفاظ أو معاني الألفاظ ‘’يدل على تغير فكري ما‘’ وربما فيه ما يشير إلى تبدل ثقافي لم ننتبه بعد إلى أهميته .فيوم استأجر العربي المثقف السرياني لنقل الفكر اليوناني الى العربية ’ اكتفى السرياني بالجهد الأدنى فقال ‘’كاتيقورياص’’ مقابل Catégorie وقال ‘’ارثميطيقا» مقابل Arithmétique ‘’وقال ‘’اصطرونوميا «مقابل Astronomie وقال ‘’انالوطيقا ‘’مقابل Analogie الخ...كما نلاحظ بقايا ذلك بوضوح في رسائل إخوان الصفاء مثلا ...

ويوم ثقف العربي الفكر اليوناني اي سيطر عليه وادرك معانيه استعاض عن النقل بالتعريب فقال ‘’المقولات’’ و’’علم العدد’’ او’’ الحساب’’ و’’علم النجوم ‘’او ‘’علم الفلك ‘’و’’القياس’’ و’’التماثل ‘’ أو’’التناسب’’ ...ولاشك في ما تتضمنه تلك النقلة اللغوية من قدرة على الفهم وتوطين المعارف وامتلاك القدرة على المساهمة في تطويرها.

وفي تقديري المتواضع ’يبدو ان ذلك الامتلاك هي حقيقة الثقافة ذاتها ’ سواء تدبّرناها بلسان عربي مبين او وفقا لما تقوله الدراسات الانتروبولوجية الحديثة .فليست الثقافة ‘’ميراثا ‘’ أو ‘’ارثا’’ ندعى الى الحفاظ عليه ’ ولاهي ‘’تراث’’ ندعى الى الاقتداء به والالتزام بقيمه ...بل هي الجهد الذي نبذله يوميا لنقدر على تغيير الواقع ولنا في ابن منظور وابن خلدون اسوة حسنة .
فقد علمنا الاول أن الثقاف (بكسر الثاء) هو الحذق وان الرجل الثقف (بفتح الثاء والقاف) هو الحاذق الفهم وان ‘’تثقف ‘’ الشيء هو ان تظفر به فتكون لك الغلبة عليه...والى جانب هذين المعنيين النظري (الفهم ) والعملي (السيطرة ) يضيف ابن منظور معنى ‘’قيميا’’ هو معنى تسوية العوج وهو ما يستوجب احتذاء قيمة ما او القياس على مثال سابق الخ ...

ونحن نجد أن لفظ ثقف يتضمن عند ابن خلدون هذه المعاني نفسها...وللتذكير فقط ’’خاصة تذكير من تعود استصغار تونس’’ أن ابن خلدون وابن منظور تونسيان ونحن لا ننطلق منهما لكونهما تونسيين بل لأنهما حددا الإطار ا الثقافي العربي عامة بدءا بالإطار المعجمي والإطار الفكري العام .

يتحدث ابن خلدون في فصل «قيادة الاساطيل» عن معطى تاريخي وهو أن عمر الفاروق منع جيوش المسلمين من ركوب البحر لأنه كما قيل له حين سال عن البحر ’’خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود’’ .ويفسر ابن خلدون موقف الفاروق بقوله: ’’ أن العرب لم يكونوا مهرة في ثقافة البحر ، في حين أن الفرنجة –على عكس العرب ’’مرنوا عليه وأحكموا الدراية بثقافته’’ .والثقافة هنا هي ’’احكام الدراية’’ واكتساب ’’المهارة’’...ومما ينبغي التذكير به مرة اخرى ان المنع العمري رفع يوم اكتسب العرب ’’ثقافة البحر’’ بفضل ’’دار الصناعة’’ التي أنشاها التونسيون بتونس مدينة السلام ...ومن تونس انطلقت الأساطيل العربية للسيطرة على ’’بحر الروم’’ وتأمين سلامة أراضيهم ... ولا ريب ان التونسي خاصة والعربي عامة لم ينس ما اقتدر عليه ابن القيروان أسد ابن الفرات ...

وعلى الرغم من أن الانطروبولوجيين يحصون حوالي مائة وخمسين تعريف للثقافة ’فليس في أي منها ما يخلو من هذه المعاني الأساسية التي حددها التونسيان ابن منظور وابن خلدون . فالثقافة في مجملها تصور فكري وتمكّن عملي وانجاز تقني... ليست الثقافة هي ’’التراث ’’ ولا هي ’’الإرث’’ ولا هي ’’التقاليد’’ ولا هي ’’مخزون الذاكرة الجمعية’’ بل هي عمل يومي وانجاز فعلي وتغيير دائم ... وفي ذلك الافق الديناميكي وحده يمكن ان يكون لتلك لعناصر السكونية كما يقول أوغست كونت كالإرث والتقاليد والعادات والذاكرة الجمعية حياة ما ومعنى ما.. وفي ذلك يكمن كل الفرق بين ’’الأمم التراثية’’ حبيسة أمسها ولا تجد في الإمكان أفضل مما كان و’’الأمم الحية’’ التّائقة دائما إلى الأفضل لا تلتفت إلى ما أنجزت إلا لتنجز ما هو خير منه في إطار الجمع بين ’’النظام والتقدم’’.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115