بين «مجنون» جبران، و«جنون» الجبالي

(لا علاقة لهذا النصّ بالنقد المسرحي أو الأدبي، إذ لستُ أكثر من مستهلك ثقافي في المناسبات. بل تحرّك هذا النصّ في داخلي بعد مشاهدتي لمسرحيّة «المجنون» لجبران خليل جبران من إخراج توفيق الجبالي على خشبة مسرح التياترو: تونس 10 نوفمبر 2016).
موضوع ”الجنون“

هو من المواضيع التي شدّت أكثر من كاتب وروائي وشاعروحتّى رسّام عبر العصور والحضارات المختلفة وانتقل أيضا حديثا إلى السّينما وهو آخر الفنون. من جنون قيس بن الملوّح في الأدب العربي، إلى جنون تلستوي في روايته ”مدوّنات مجنون“، ونيتشه في ”حديث زارادشت“ وإلى جنون فان غوغ وسلفادور دالي، لا يمكن حصر الأدباء والفنّانين المجانين أو الذين عاشوا حالات هذيان طبعت حياتهم وتجسّمت في أعمالهم. تتداخل الكلمات أوالمعاني أوالألوان عند هؤلاء لتخرج أعمالا ”جنونيّة“ ترقى إلى العبقريّة. فحالة الجنون في تعريفها الإيجابي هي أساسا حالة نقديّة رافضة للسّائد وحالة من الإستيهام الباحثة عن الحرّية في فضاء متخيّل، حتّى أنّه لا يمكن الفصل أحيانا بين العبقريّة والجنون، وبين الإبداع والجنون، وبين القدرة على النبوءة بالمستقبل والجنون. فالثّورة على مدرسة أدبيّة أو فنيّة والتمرّد عليها هو في حدّ ذاته ضرب من الجنون، ولا احتاج للإطالة في الموضوع لتعداد المدارس الذي تحدّت ما سبقها بتقنيات واساليب جديدة وتركت آثارا تعتبر من التراث الخالد. وقد تناول ميشال فوكو هذا الموضوع بإسهاب في كتابه ”تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي“.
لكن ما يهمّنا هنا أنّ جبران خليل جبران عاش بدوره حالة الإستيهام الخاصّة به في أوّل كتبه

المنشورة في اصلها باللغة الأنجليزيّة وهو ”المجنون“ ”The Madman“. يتضمّن الكتاب خمسة وثلاثين نصّا نثريّا وشعريّا يحكي فيها برمزيّة عميقة ولغة لاذعة على لسان بطله المجنون، عن علاقته بالتقاليد والأعراف والدّين. وينتقد بسخريّة كبيرة مظاهر التطرّف والنّفاق والتحجّر الفكري. ليس من السّهل أن يتخطّى ”العاقل“ خيط العقلانيّة ليدخل عالم ”الجنون“ كما فعل جبران ليعيشه بالمتخيّل لديه في عقل بطله، فيستبطنه ويفكك رمزيّاته ويبني حوله قصصا مترابطة، ثمّ يعود إلينا ”نحن العقلاء“ بنتيجة أنّ اللّامنطق له منطقه المغاير، وأنّ حالة الجنون في حالتها الإكلينيكيّة وعزلتها عن عالم ”العقلانيّة“، لسيت سوى شكل من أشكال الحرّية التي تعيش على وقع تخيّلات لا تعترف بالمفاهيم القيميّة للمجتمع.

فهذه التجربة الإبداعيّة لجبران في كتاب ”المجنون“ هي حالة جنونيّة في حدّ ذاتها. لكنّ ”أجنّ“ منها تجسيم الإستلهام الميتافيزيقي لجبران على خشبة المسرح وإعطاء البعد النصّي بعدا آخر في رمزيّة الحركة الركحيّة والسّينوغرافيا التي تعيد إدخال المتفرّج إلى داخل عقل المجنون لفهم منطقه... فمَنْ هو المسرحي الذي كان سيتجاسر على هذا الفعل ويقوم بمثل هذه التّجربة غيرمحمودة العواقب؟ فعلها توفيق الجبالي، وأخرج نصوصا مختارة من كتاب جبران، فأبهر المشاهدين.

تمكّنت حرفيّة مخرج العمل وقراءته الخاصّة لرائعة جبران، من تحويل خشبة مسرح ”التياترو“ إلى عقل ”المجنون“ وأقحم المشاهدين فيه بأن جعلهم يتخطّون معه خيط ”العقلانيّة“ الرفيع ليستقرّوا داخل هذا العقل ويعيشوا معه منطقه في رؤيته لعالم ”العقلاء“. كان هذا الدّخول ضروريّا لمعرفة الإجابة عن سؤال لا يمكن الحصول عليها من خارج المنظومة الفكريّة للمجنون الذي عادة لا يبرّر أفعاله للآخر، الا وهي: كيف أصابه الجنون؟ تحدّث المجنون في باطنه المكشوف للجمهور بكل ”عقلانيّة“ عن هذه الأسباب كمن يتحدّث لنفسه بصوت مسموع وسط ظلام يقطعه عن العالم الخارجي. اشتكى في ذاكرته تلك من سرقة أقنعته السّبعة التي عاش بها في الحيواة السّبع، وكيف ركض وراء اللّصوص ليصرخ طفل من فوق سطح ”مجنون“... ضاعت الأقنعة السبعة، أو بالتّالي الفضائل السّبع في رمزيتها المسيحيّة الكاثوليكيّة (التي ينتمي لها جبران)، فأصابه الجنون.

وفي جنونه، وجد البطل حرّيته في وحدته، والأمان في أن لا يفهمه أحد لأنّه، في منطقه، من يفهمنا سيستعبدنا بطريقة ما... ظلّ الصّوت الدّاخلي يتردّد برجع صدى مرارا وتكرارا ”لكم فكرتكم، ولي فكرتي. لكم فكرتكم ولي فكرتي...“. تتوالى الحكايات، أو لنقل الأفكار والخيالات، داخل عقل المجنون الواحدة تلو الأخرى. يجسّم كلّ ممثّل من الممثّلين واحدة من تلك الأفكار والخيالات المتداخلة، وهم في حركة دائبة وراء ستار شفّاف في ظلام كامل للمسرح، إلّا من بعض الأضواء الموجّهة على حركاتهم التي تتبع الأصوات المتردّدة في عقل المجنون تفسّر بمنطقه مواقفه من عالم ”الآخرين“ الذي قرّر الانقطاع عنه. تظهر الأفكار وتتخفّى، تنزل إلى الأرض زاحفة وتصعد مرّات نحو السّماء، تتفرّق مرّات وتتداخل أخرى... تذوب في غياهب النّسيان، ثمّ تعود فجأة وبقوّة... لم يكن من السّهل أن تستمرّ حكايات المجنون الباطنيّة في ذاك الظّلام بدون إيقاع... ونجح الجبالي إلى حدّ الإبداع ”الجنوني“ في خلق ذاك الإيقاع المتتابع لحركة الممثّلين على أصوات المجنون أو ما يسمعه من أصوات أخرى من داخله، وعلى وقع الموسيقى بدون إطالة في المشاهد...
كانت سهرة رائعة ... شكرا Taoufik G Bali وشكرا Zeyneb Farhat على حفاوة الاستقبال لضيوف التيّاترو في عيد ميلاده الثّلاثين.

بقلم: ماهر عبد الرحمان

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115