منبر: أيَّ البيْتين سكن الشّابي، وفي أيّهما يُقيم؟

( ألقي هذا النصّ صباح يوم الأحد 09 أكتوبر في روضة أبي القاسم الشّابي بمدينة توزر في الذّكرى الثانية والثّمانين لوفاة الشّاعر ضمن برنامج أعدّته المندوبيّة الجهويّة للشؤون الثقافيّة بالتّعاون مع جمعيّة أبي القاسم الشّابي للتّنمية الثقافيّة والاجتماعيّة، والرّابطة العربيّة للفنون والإبداع )

• بارقة أولى:
« سئمت القصور وسكّانها وما حولها من صراع عنيف»
( الشابي، الدّيوان: بقايا الخريف )

• بارقة ثانية :
« بيْتٌ بنته ليَ الحياة من الشّذى
والظلّ والأضواء والأنغام »
( الشابي، الدّيوان: الغاب )
بارقة ثالثة:
« نشيد الجبار » بكلّ أوساعه وأوجاعه... يكفي عند كلّ ذي نظر أن يلقى منه ما يليق بمقامه ويفيه حقّ قدره ومقداره...

(1)

حين تنأى بلادٌ عن قلبها وتنكر روحَها وتخرّب أجملَ ما فيها وأبقى ( أو تحاول) تنحدر رأسا إلى الدّرب الذي ينتهي إلى هاوية أو جدار...
حين تخرّب بلادٌ روحَها وتشوّه إرثَها... تفقد ضوء الدّليل الذي يُغري بالقِمم والأعالي ويهزّ الخطوَ إليها.
حين تُغضي بلاد عن قلوب عشّاقها وتنكرهم، تنجم في الأرجاء جراحاتهم وهي تنزف النشيد تلوَ النّشيد في ليل غربتهم المديد:
« ما أعذبَ روْح البلاد وما أمرّ فعلَ العباد...»
قدر الأمم الحيّة أن تحفظ ذاكرتها وتصونها... هي وحدها من يردّ عنها جوائح الوقت ودواهي الزّمن...
ذلك من شأن الأمّة العظيمة. وإنّك لكذلك يا بلادي.. لكنّ بعضَ أهلِك يأبون.

(2)

أكلتنا البداوةُ، روح الجاهليّة الأولى التي لا تموت..
وكأنّ البداوةَ طبعنا القديم الذي ينجم فينا في الوقت بعد الوقت كلّما عوى في سمائنا هجير الصّحارى واستيقظ في أعماقنا غول النّسيان...
طمسْنا صوتَ كلّ المخلصين من البشر ( شخصا ونصّا وسيرة ومسيرة ) وأهملنا حكمة الغاب والشّجر(رُوحا وروْحا وريحانا ) ثمّ أغفلنا الوصايا الثّاوية في ذاكرة الحجر فانقطع بنا حبل الدّليل إلى الذّرى وانحدرنا..

واقف زمن هذه الأمّة ومَنينٌ.. والسّير إلى الوهاد أقبح من الوقوف، ونحن إلى الوهاد والكهوف نحثّ الخطو منذ وقتٍ مسلمين إلى الرّيح أقدارنا..
صوت الحقّ قويّ لعلعٌ، أجل، وعال صرح النّور، وهو ظلّ الإله، غير أنّ هدهدة الغنيمة قاهرة غلاّبة وحكمة صاحب « الأمير « سادرة خلاّبة..
ضيّقة هي البلاد في عين من سطّر، على هواه، تاريخَ البلاد... ومتضخّم كيان الزّعيم الواحد الأوحد، والقائد الفذّ الأمجد، والمجاهد الأكبر والأسعد بالعرش الذي فاض حتّى غطّى سماء البلاد وحجب ظلال الإله عن البشر والشّجر والحجر وقصّب أجنحة الأفكار والأرواح وبنى المعابد للعبّاد واستوى « إلها صغيرا «...
ضيّقة هي الأرض.. وواسع ليل السّائرين إلى الصّباح يرسمونه في رؤاهم ولا تراه عيونهم إلاّ وعدا واحتمالا.

(3)

وأنت تقف على ركام التّراب والحجارة والحديد، تذكّر الحديقةَ والفِناء.. تذكّر السّقيفة والأقواس الحارسة لأرواح الأطفال المنتشية بالأضواء والظّلال والأنغام..
وأنت تقف في السّاحة الجرداء، بُعيد همود صخب الجرّافات التي حرّكتَها وتلذّذتَ بسماع زئيرها وهي تنهش الرّخامَ والحديد وضوْء الأرواح المفجوعة في مدارها.. تذكّر، وأنت تغادر آلتك المفترسة، تلك الرّوح التي أينعت هناك منذ دهر، وتذكّر الضّوء الذي كتبَ لك ورسم للوطن « بيتا من الشّذى » واستفتِ الصّوت الذي سينتفض في أعماقك...
أغمض عينيك قليلا وأصخ السّمع إلى وجيب قلبك وتهجّ ما يحاول أن يقول لك.. ستعلم، ربّما، أنّك هدمت بيت الحجارة والحديد.. ولكنّك أعجز من أن تهدم بيتَ القصيد.

(4)

بُعيد الهدم، والجرّافات تجترّ ما التهمت من جسد البيت / الحديقة، مرّ شيخٌ بالجموع الواقفة على الطّلل... لاحظ أنّ وجه الطّريق غريبٌ.. أنكر المسلك الذي تعوّد على قطعه يوميّا منذ أكثر من تسعين...
لفّه الصّمت واحتار في المشهد قدّامه... قلّب النّظر في من حوله، ثمّ ارتقى عجينة التراب والحجارة والحديد وانتصب في الفناء العاري. أغمض عينيه فنجم في أعماقه صوتٌ.
كان الصّوت أليفا واضحا والنّبرُ جريحا:

« يا دارُ، أهلي تمادوا ما أطاعوني
قلبي عليهم وهم جرحي وطاعوني
أحدو الغيوم إلى رمضاء حقلهم
ُوالقلب طير إلى الأنواء يدعوني
يا ويح أهلي أضاعوا العزّ في حجرٍ يا ويح أهلي من الإمعان في الدّونِ
قلبي دليلي، وقلبي كان مذبحتي يا من يعزّي، ومن يتلو: « أضاعوني».

(5)

عند « رأس العين » وقف الغريب.
تنفّس بعمق نسيم الواحة البارد، ثمّ ارتقى الكدية... وصل لهاثا إلى قمّتها فتفجّرت في الأفق الحالك كوى وأضاءت وجوهٌ...
وجه الرّضيع المبتسم في حضن الكهل المتربّع على دكّانة السّقيفة الظّليلة..

وجه الصبيّ الرّاكض في الحوْش كفراشة أو طيْر...
وجه الطّفل المتربّع عند ركبة الكهل، صباحا ومساء، يصغي إلى حديثه ويتلو الآيات ويردّد الأشعار..
نفس الوجه وقد سرقه النّعاس في حُضن كتاب... في الحلم كان يرى نفسه وهو يتهجّى سيرة السّلالة ويجترح مسيرة بلاد وحياة أمّة وروح وطن لا حدود له.

وجه الشّاب النّاضج المترع بالأسى وبالأوجاع الكظيمة.. يقتفي أثر القلم الرّصاص يصهل على بياض ورق الدّفتر ثمّ يركض عبر الغمامات حتّى يلامس الشّمس الغاربة ويختفي معها قبل أن يطلع ترنيمة ضوءٍ على معراج قمريّ مزهر...
تنطفئ الوجوه كلّها حين تنطمس الكُوى في الظلمة..
يُسمع صوت جرّافات تزأر... هناك ظلام يكرّ.
من الظّلام يُسمع غناء كالبكاء:

« قلبي وأنتم والوطن
والفائت المنسيّ من غدنا الذّي ربّى الكلامْ
قلبي سماء في مدار الوقت.. أغنيةٌ

لكنّ موعدها ضرامْ
الوقت كان شراعَنا.. كان الرّياحَ الذّارياتِ وبيتنا
لكنّ حادينا ظلامْ
مرّت حياة قرب خيمتنا القديمة

نبَت الكلام على جوانب صمتها
هبّت وجوه كنتُ أنحت من ضيائها خطونا
هبّت وهمّت بالطرّيق إلى يديّ ومعبدي
لكنّها غارت بعيدا عندما
رأتِ انطفاء حدائقي

وخراب أعشاش الحمامْ »

(6)

بكتْ في أعماقي، بلا دمع، روحي..
انتحب القلب وأجهش بالحنين إلى ما فات وامّحى..
جثوت على ركبتيّ، وناديتُ بلا صوت الطّيف الواقف كالغيمة أو كالنّسر فوق الرّكام. هتف وجه وأضاء فأصغيت إلى وصيّته وهو ينأى:

« أيّها الواقف على أثري.. كفّ عن النّحيب.. لاتبكني.. فأنا لست هنا.. ليس في التّراب غير التّراب، وما في الطّين غير الطّين الذي فتّته الزّمان وذرته ريح الدّهر.. أنا لم أغب، ما زلت حيّا في اللاّمكان وفي اللاّزمان وفي المدى.. الرّيح الصّاهلة في الفضاء بيتي.. والشّمس وهي تطهّر الكون بدمها الذّهبيّ مصباحي... النّجوم الضّاحكة إخوتي والقمر الذي يناجي الغابة بصوته الفضيّ شقيقي... أمّا المطر وهو يمشّط الأشجار ويغازل الحقول ويلاعب السّنابل فقيثارتي ونشيدي...
يا أيّها الواقف على أثري تحرّك.. ارفع جناحك، صوب اللاّمكان، اللاّزمان... ستراني».

(7)

النّاس صنفان:
من ينفق الحياة في بناء قبر الحياة.
ومن يقضي الحياة وهو ينحت هيكلا للذات.
الأوّل غافل جبانٌ.. والآخر عاقل فنّانٌ.

والمفارقة أنّ أحفاد الأوّل يتكاثرون كالدّود إلى درجة الغثيان، وأحفاد الآخر سادرون في ضباب النّسيان.
الشّعراء يكرهون بيوت الطّين والحجارة ويأبون الإقامة فيها، ويختارون أبيات الخيال والعبارة، يشيّدونها على امتداد رحلتهم في الحياة ولا يكفّون عن توسيعها بما ملكوا من أدوات البناء: ضوء المحبّة وماء الخير وبرْد الحقّ ونسيم الجمال...

بيت الشّاعر الوحيد هو قصيدته التي بناها في قلبه وأقام فيها ودعا إليها كلّ قلوب النّاس وأغراهم بها...
ليس للشّاعر بيت من حجارة تأتي عليه الجرّافات، بل له أبيات من عبارة عابرة للزّمان باقية رغم جحود ذوي القربى وكيد الكائدين من ذوي السّلطان وأصحاب المال... بيت الشّاعر قصائده.. صُدود ورُدود مشيّدة من نور لا تبدّد وحشته اللّيالي ولا تأكله رحى الزّمان التي تدور وترحي كلّ شيء باستثناء ما نحتته الرّوح ونقشته على جدار الوقت شاهدا على جوهر الوجود الحقّ وصورة عن الكيان الصّادق والباقي على الدّهر...

(8)

في غمرة الجدل الصّاخب العقيم حول قضيّة بيت الشّابي وإرثه ووارثيه، يطلع على الجموع المختصمين شيخٌ.. يعبر الضّجيج حتّى يخنقه.. يتفرّس في الوجوه ويعلو صوته فيصمت كلّ من حوله.. طالت خطبته، وضاق من حضر بالكلام فسها بعضهم وشرد البعض الآخر وزفر قوم وامتعضوا وتململ آخرون، ثمّ شرعوا يتناقصون حتّى خلا المكان إلاّ من صوت الشّيخ المنهك..
تفرّقوا في الشّوارع فابتلعتهم الأزقّة والبيوت والمقاهي والخمّارات والمساجد والمكاتب ذات الكراسي المريحة والهواء المكيّف على مقاس الوقت وصنّاعه..
وحده الشّيخ شقّ بخطواته الواهنة الدّرب إلى الواحة وفي قلبه صوت ينوح: «سئمتُ القصور...».

(9)

هذا نصّ مجهول للشّابي... عُثر عليه في حطام الدّار المُكتسحة مؤخّرا. من عثر عليه حَجبَه عن الورثة الشّرعيين أيّاما... ثمّ أظهره. صار هو أيضا وريثا.. وأصرّ على نصيبه من قيمة اللّقيا... أغراه بعضهم بالنّشر فقبل، غير أنّ الورثة اعترضوا..
القضيّة تعد بصخب إعلاميّ كبير وضجّة قد تنتهي إلى المحاكم..

هذا مقطع من النصّ. حصلنا عليه بتقدير من الوارث الجديد حسبَ المبلغ الذي دفعناه له.. ليس للنصّ عنوان ولا تاريخ.. ولكنّ الورق أصفر والخطّ خطّ الشّاعر بلا أدنى شكّ، غفر الله له وأحسن إليه:
تموت البلاد، بأنقاض بيتي .. تموتْ
يموت الكلام على شفتيها

وتهجر أحلامُها ليلَها... يغور سناها
ويربو على عينها العنكبوتْ

يموت النّشيد، وما يشتهي القلب من أغنيات
تموت النوارس من وحشة في الدّروب

فتغفو رياح وتنأى شطوطْ
تموت البلاد وتمسي ركامْ

وقفرا يجافيه سجْع اليمامْ
تموت المنازل والذّكريات

وكلّ الذي كان فيها ومنها
وكلّ الذي ضاء فيها وغامْ

تموت الدّيار ومن في الدّيار
ولكنّ بيتا بنتْه ليَ الأمّ عطرا وضوْءا

يظلّ على الدّهر حيّا جديدا
يناوئ بلدوزر الوقت صلدا

ويحيا ولا يتعريه السّكوتْ
تموت الحياة، العباد، الغزاة، الطّغاة، الجناةُ تموتْ

تموت الأيادي، الأعادي، النّوادي، البوادي تموتْ
تموت الدّيار، المباني، المغاني

وحتّى القصور تموتُ وتُنسى الأيادي التي شيّدتها
ولكنّ بيتي الذي شادني واحتواني

سيبقى على الدّهر صوتا دويّا
يغنّي، ولا يخفتُ أو يموت.

ملحق على سبيل الأُفُـق:

صباح يوم 09 أكتوبر 2016، حين كنّا في روضة الشّابي، مجموعة من الشعراء المقبلين على إحياء الذّكرى الثانية والثمانين لوفاة الشّاعر، مرّ موكب وزير الثّقافة دون أن يلتفت إلى ما يدور داخل القاعة.. تعلّل بعدم التسبّب في اضطراب فعاليات النّدوة ليتفادى الدّخول ربّما في جدل عقيم، مع الشّعراء القاصرين، في نظره وفي نظر من قدّر، عن فهم دواليب السّياسة والإدارة، وإدارة ماكينة الحكم التي لم تتّجه يوما إلى مناطق الحكمة ومنبعها...

حسنا فعل، تهامسنا، إذ تفادانا.. لقد وقف طويلا على الجوقة التي أزعجت منام الشّاعر في روضته بما كانت تردّد من صخب كصخب حفلات الأعراس التّونسيّة في الزّمن التّونسيّ المصاب في بصره وفي بصيرته (ميّزتُ ممّا كانت تردّده هذا التوسّل: « ابعث لي جواب وطمّنّي «... يا لفداحة المفارقة.. ) فلعلّه قرأ على باب الهيكل وصيّة الشّاعر: من لم يكن شاعرا فلا يدخلنّ علينا.

وهل يُتوقّع ممّن لم يكن شاعرا أن يسعى إلى ما يحاول الشّعراء وأن يرى ما يرون؟؟

بعد انقضاء النّدوة وافتراق الجموع، كان ضجيج كبير يصلها من ناحية ما من المدينة التي لم يتوقّف العملة فيها عن التّنظيف والصّيانة استعداد لاستقبال معاليه.. تخيّلت الفولكلور الذي سيقدّم في السّاحات، والتّصفيق الذي سيحظى به الكلام الغثّ والمعلّب.. تخيّلت كلّ الفرح الاصطناعيّ الذي سيتراكم في السّاحة، فعجّلت بوداع من أحترم من الشّعراء وبي صوت يتردّد واضحا كالمطر:

« وخبيث يعيش كالفأس هدّاما ليُعلي بين الخراب بناءه
وقميء يطاول الجبل العالي فللّه ما أشدّ غباءه

ودنيء تاريخه في سجلّ الشّر إفك ووقاحة ودناءة »

لطفي الشابي

( شاعر وروائيّ / تونس )

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115