الأخيرة التي رأينا فيها محاولات للشدّ إلى الوراء، ونسف معالم الدولة الوطنية، وطمس رموزها الوطنية أو التشكيك فيهم، سنوات رأينا فيها مظاهر غريبة قد ترمي بكل مسيرة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية عرض الحائط لما تمثلّه من خطر على أركان الدولة، ثقافيا وفكريا خاصة..
فقد هبّت علينا موجات ظلامية، أرادت أن تغطّي سماء تونس باللون الأسود، وتنثر في هوائها نغما واحدا يحرّم ويحللّ ويكفّر.. انتشرت الخيام الدعوية المتشدّدة، وتكاثر رياض الأطفال الوهابية كالفقاقيع، وصرنا نرى اللباس الأسود يحاصر لباسنا التقليدي الأصيل، وهبّ على أرض تونس الدعاة يكفّرون هذا ويتوعدون ذاك.. وصارت العديد من الجوامع منابر لنشر التشدّد والغلو.. وكثرت الجمعيات غريبة النشاط ومريبة التمويل والأهداف.. وجاءتنا أنباء عن التحاق شباب حاملين للجنسية التونسية بالتنظيمات الإرهابية، واستشهد فيما استشهد من قوات أمننا وجيشنا البواسل في هذه العملية الإرهابية وتلك، مدافعين عن راية تونس ومناعتها.. وراح العديد من الضحايا من ضيوف تونس الكرام ومن خيرة شعبها.. فأصبح في كل ولاية شهداء.. سنوات عجاف جعلتنا نتشبّث أكثر براية الوطن وحرمته وكرامته.. وصرنا نتساءل أهذه تونس التي مرّ على استقلالها ستون عاما؟
عيد الاستقلال هو رمز نحو مسيرة بناء الدولة الوطنية، فكيف رأى مثقفون لـ»المغرب» ذكرى عيد الاستقلال، وكيف أصبح هذا الموعد السنوي رمزا خاصة بعدما عاشته تونس في السنوات الأخيرة، وكيف نرى رموزنا ثقافيا وفكريا..
المؤرخ عادل اللطيفي
تحتاج تونس اليوم إلى إعادة بناء ما وقع تهديمه في السنوات القليلة الماضية
تحتاج تونس اليوم إلى إعادة بناء ما وقع تهديمه في السنوات القليلة الماضية وأقصد هنا سنوات التسعين الى يوم الناس هذا فسياسة التهديم قد شهدت اوجها في الخمس سنوات الأخيرة وتونس بحاجة إلى اعادة بناء الشخصية التونسية التي لا تستمد هويتها لا من الشرق ولا من شمال المتوسط فالاستقلال ليس استقلالا سياسيا واقتصاديا وعسكريا انما هو ايضا استقلال في الهوية وفي الثقافة وفي الوعي الجمعي بالذات فوزارة الثقافة مطالبة بتكوين خلايا تفكير بهدف رسم استراتيجيا تحتوي اليات العمل وطرق استغلال وسائل التعبير الثقافية المختلفة من اجل بناء شخصية تونسية مستقلة قادرة على الصمود امام المؤثرات الخارجية التي تهدد الاستقرار
تحتفل تونس اليوم بالذكر الستين للإستقلال، وفي هذا الاطار لا بدّ من تناول موضوع الاستقلال حسب رأيي بالنظر إلى الوضع الحالي الذي تمر به تونس، وذلك من خلال ثلاثة مستويات، اولا لابد من قراءة هذا الحدث وهذه الذكرى من وجهة نظر تاريخية ثم الجانب الثاني هو قراءتها في اطار السياق الحالي وهو سياق التحول الديمقراطي ما بعد ثورة، ثم البعد الثالث وهو محاولة استشراف افاق مستقبلية حول قيمة الاستقلال، بالنسبة للجانب التاريخي للمسألة، هو في الحقيقة من بين الإيديوليجيات المؤسسة للهوية الوطنية وللدولة الوطنية وهو ما نلاحظه في كل دساتير البلدان التي كانت مستعمرة، نجد عادة في الفصل الأول التأكيد على أنّ البلد مستقل، بالتالي الاستقلال اصبح جزء من الهوية الوطنية للبلدان الناشئة بصفة عامة، ثم الجانب الثاني التاريخي هو ربما مرتبط ببعض الافكار التي انتشرت بعد
الثورة والتي اصبحت تشكك في الإستقلال، نظرا لأن بعد الثورة خرجت عديد القوى الماقبل دولتية ، أو حجتي القوى التي تشكك في الدولة والإستقلال بصفة عامة، تعتبر أنّ الاستقلال لم يؤخذ بالقوة بل صار نتيجة مفاوضات إلى غير ذلك، وهذا حسب رأيي مبني على جهل تاريخ الإستعمار سواء في تونس أو في المغرب أو في الجزائر إذا اكتفينا بالحديث عن الحالات المغاربية، في تونس ولا حالة المغرب باعتبارهم «محميات»، ليس كالجزائر حيث كان الاستعمار استيطانيا بالأساس، المغرب وتونس طريقة استعمارهما لم تكن تهيء لقيام ثورة بل تهيء بالاساس لقيام مسار استقلال تفاوضي وهذا ما تمّ لأن الاستعمار لتونس والمغرب كان استعمار تصرّف..
من المهم جدا التذكير بهذه المعطيات، والعمل الوطني في تونس كان عملا سياسيا جماهيريا، لكنه اعتمد مسار مفاوضات وهذا عن وضع وسياق تاريخي وليس كما يحاول البعض ان يقرأ التاريخ قراءة فيها نوع من التخوين إلى غير ذلك، المستوى الثاني لتناول قيمة الإستقلال هو السياق الحالي، وهو سياق تحول ديمقراطي ما بعد ثورة، وتتمثل قيمة الإستقلال في هذه الحالة، في التأكيد على الهوية الوطنية التونسية لأنه لا يمكن تصور اي تحول ديمقراطي خارج إطار الدولة الوطنية، الإستقلال يذكرنا في اطار السياق الديمقراطي بعقلانية الدولة التي يجب أن تستمر خاصة وانّ الثورة في تونس كما في البلدان العربية الاخرى اخرجت الى الوجود قوى أصبحت تهدّد هذه الدولة في كيانها، وبالتالي نلاحظ انّ هنالك عودة للإستقلال بشكل كبير جدا..وفي اطار عودة رموز الهوية الوطنية مثل بورقيبة، مثل اللباس التقليدي.. نظرا إلى ان سنتي 2012 و2013، القوى التي كانت تشرف على الدولة لم تكن تؤمن بهوية هذه الدولة أصلا، اما البعد الثالث هو البعد الإستشرافي لنفهم قيمة الاستقلال مستقبليا...
الأستاذ منير الشرفي
عن التبعية الثقافية..
الاستقلال يفيد مبدئيّا عدم التبعيّة لأي طرف أجنبي. وفي المخيال العام، نطرح إشكالية الاستقلال عندما يتعلّق الأمر بالسياسة والاقتصاد. فإذا لم يكن قرارنا السياسي بأيدينا، كما يظهر ذلك من حين لآخر مثل ما حدث بخصوص موقف بلادنا من حزب الله اللبناني، أو إذا أصبحنا مُجبرين على التداين بشكل كثيف وبنسق تصاعدي مثل حالنا اليوم، فإننا نفقد شيئا فشيئا استقلالنا السياسي والاقتصادي.
لكن التبعية السياسية والاقتصادية كثيرا ما تكون ظرفية، ونأمل أن نسترجعها في أقرب وقت. أما التبعية الثقافية فإنها، إن حلّت بنا، يمكن أن تستقرّ طويلا وتُشكّل خطرا كبيرا على وطننا وعلى هويتنا وعلى أبنائنا.
هويتنا الثقافية هي طبعا ماضينا وحاضرنا، أي أننا عرب ومسلمون، كما ينص الدستور، وهي طبعا ما تركه لنا أسلافنا التونسيون من ابن خلدون وابن أبي الضياف وخير الدين وبورقيبة وعلي الرياحي وعلي بن عياد... ولكن هويتنا الثقافية ليست فقط الماضي والحاضر، وإنما هي أيضا وبالخصوص ما نحب أن نكون في المستقبل. وهنا بيت القصيد.
إن التجاذبات التي نعيشها اليوم في تونس تتمحور بالخصوص حول الطريقة التي يجب أن نُثقّف بها أبناءنا مستقبلا. فهل نريدهم أن يعيشوا حياة متناغمة مع العصر ومع الحداثة، مُتفتحين على العلوم المعاصرة واللغات الحية والحضارات الراقية، أم مُتشبّثين بتقاليد الأسلاف بما فيها من تديّن مُفرط وجهل مقيت وتعصّب لأجداد الأجداد؟
وهنا بالذات تُطرح إشكالية الإستقلالية. فهناك من يرى بأن التشبث بماضينا البعيد هو عين الاستقلال. وفي ذلك مغالطة كبرى. إذ أن العودة الآلية للسلف ليست سوى انغلاقا عن النفس والعمى الثقافي الذي يُولّد التقهقر الحضاري، ويُولّد بالخصوص التعصّب في مرحلة أولى، ثمّ العنف، فالإرهاب.
وأما الانفتاح على ثقافات العالم المُتحضّر فلا يعني البتّة تبعيّة ثقافية لأن التبعيّة مفروضة من الأجنبي. أما إذا كان الانفتاح اختياريا فيكون إقراره بأيدينا وبمحض إرادتنا. وما علينا إلا أن نُقرر، بكل استقلالية، ما ذا نريد أن نكون، مُتحضّرين حداثيين أم رجعيين مٌتزمّتين؟
محمد رشاد بروق متفقد وباحث في العلوم الموسيقية ومدرس بالجامعة..
الاستعمار لا يكون إلا ثقافيا..
الإستقلال الثقافي هو أساس كل استقلال نرنو إلى تحقيقه، سواء كان استقلالا سياسيا أو اقتصاديا، لأني أعتقد أن الاستعمار لا يكون إلا ثقافيا، فالمستعمر يسعى إلى التغلغل الثقافي وينطلق من هناك إلى التحكم في أخذ القرار السياسي والتدخل فيه، وإلى بيع بضاعته، وقد قال شارل ديقول ذات مرة في إحدى خطبه : apprend lui la langue il devient consommateur، وهو ما فهمته جل البلدان التي تجر وراءها تاريخا استعماريا حافلا، فسعت إلى ترويج منتوجها الثقافي وبيعه حتى تستعيد مكانتها الاسترتيجية ودورها السياسي وقدرتها على التحكم ولنا أمثلة واضحة نراها اليوم تمارسه عديد البلدان، أذكر الصين مثلا من خلال تشييد المراكز الثقافية في بلدان شتى، والتعريف بالعادات و الأكلات الصينية ، والضغط لإدراج اللغة الصينية ضمن المقررات التعليمية من خلال الاتفاقيات المشتركة وعبر التشجيع والمنح والهبات، أذكر مثالا آخر لتركيا التي تسعى إلى استعادة تركة الرجل المريض من خلال الغزو الثقافي لشعوب مستهدفة، عبر أعمال ثقافية مثل المسلسلات عالية الجودة الفنية التي أنفقت عليها كثيرا وذلك لاستقطاب واستمالة شعوب منبهرة
تشعر بالملل الثقافي وانسداد الأفق المحلي وتتوق إلى استرجاع أمجاد قد تكون أسطورية، من خلال تجميل الماضي وتمجيده، هذا ما دفع عجلة السياحة التركية أشواطا إلى الأمام مقابل تدمير أسواقنا السياحية، هذا غيض من فيض، لكننا بالمقابل لا نكاد نلمس لنا سياسة ثقافية معلنة واضحة غير تلك التي انطلقنا بها إبان الاستقلال من تركيز الهوية العربية التونسية الأصيلة ومحو مخلفات الاستعمار، ورغم تعاقب الحكومات والوزراء على مختلف ألوانهم لم نشعر حقيقة باسترتيجية ثقافية واضحة المعالم تضع أهدافا حقيقية تشتغل عليها وتعمل على ترسيخها وبثها والتشجيع على الانخراط فيها، الشيء الوحيد الذي يمكن ذكره هو سياسة الثقافة الداعمة لنفسها التي انتهجها بن علي قصد تقليص دعم الدولة للمثقفين تحت شعارات مغلوطة تدعي أن الثقافة الحية تفرض نفسها على الجمهور، ما فتح الباب للفن الهابط والسياسة الثقافية الشعبوية ليصبح المثقف هو المبهر من خلال كلام سوقي أو لحن بسيط يردده الجمهور..
في مقابل انكماش للمثقف الحق والتفاف منه إلى همومه اليومية والمعيشية وعزوفه عن كل عمل ابداعي لأنه وبكل بساطة غير مجدي، هذا إضافة إلى الفساد الذي ينخر القطاع الثقافي والذي يعرفه القاصي والداني، والمحسوبية والإبقاء على سرية المسالك الثقافية وصد الوجوه الشابة، وعدم وضوح في صيغ العمل ولا في طرق الدعم، مع غياب القدرة على الإقناع بمختلف الاختيارات والتوجهات التي تنتهجها وزارة الثقافة التي أعتقد أن كل إصلاح مرجو في الثقافة لا بد أن يبدأ من سؤال مشروعية وجود وزارة للثقافة في حد ذاتها، فاقتسام الكعك يمكن الإبقاء عليه ضمن مصلحة تنشأ للغرض في وزارة الشؤون الاجتماعية، أما الثقافة فيجب أن تكون سياسة دولة، تضع لها استراتيجية وأهدافا قصيرة متوسطة وبعيدة المدى تنطلق في تنفيذها مع آليات دقيقة للمتابعة والتقييم والتعديل والإضافة، وتونس قادرة على كل ذلك بنخبها المنتظرة للارادة السياسية الحق التي عليها الخوض بشجاعة في مختلف الملفات.
الدكتور حمادي بن جاءبالله
الأفق الثقافي في مسار استكمال الاستقلال الوطني
ليس لنزيه أن ينكر انجازات دولة الاستقلال .وليس لحازم أن يلهيه ما انجزت دولة الاستقلال عما بقي عليها انجازه وهو أكثر واخطر ولا سيما في الوضع الراهن بما يقتضيه من يقظة لاتاخذها غفلة ’ ومن نكران للذات لا تقهر أنانية, ومن استعداد لاستكمال استقلال الوطن وقد بان بما لاشك فيه أن بيننا نحن معشر التونسيين من هو منّا دون ان يكون ولاؤه لتونس.كانت معركتنا امس مع قوة خارجية استعمارية قاهرة .أما معركتنا اليوم فمع انفسنا وضد ما صنعناه بايدينا.والقهر الخارجي الى زوال مهما طال أمده .وقد أزحناه وارقنا دماءنا للتحرر منه ونحن نحتفل اليوم بالذكرى الستين لاستقلالنا الوطني .اما ا العائق الداخلي فقد لا نتبينه لأنه كثيرا ما يلبي لبوس ‘’الاصالة ‘’ ويمتطي ‘’مركب الهوية ‘’ بل قد تكون له من الرقاعة ما يجعله يعتبر نفسه ‘’ضمير الامة››...
ولا ريب في تقديري أن معركة استكمال استقلال تونس هي اليوم قبل كل شيء معركة مسلحة لانّ اعداء تونس غدروا بها مسلحين ’ يقتلون أطفالنا وشيوخنا ونساءنا ويحاولون الاعتداء على قواتنا المسلحة ولا سبيل الى ردع المعتدي الاثم الا بقوة السلاح وتطبيق قانون الارهاب في حزم لايلين وعزم لايفتر على اجتثاث الشر ليسلم البشر .
ولا ريب في ان تلك المعركة ستكون مرّة .ولا ريب أيضا في اننا منتصرون فيها وقد بيّن التونسيون بما لا بيان بعده أنهم لحمة واحدة شعبا ودولة وقوات مسلحة ‘’من النخلة الى الدخلة’’ ...وقد بان لكل ذي بصيرة ان ثقافة التونسي أبعد ما تكون عن ثقافة الارهاب وان التونسي يرفض فرضا متزايد الحدة والاتساع جميع أشكال الخلط بين الدين والسياسة..وان كل تلكّؤ او تحيل غبي للمضي في هذه الطريق المسدودة محكوم علية بالفشل الذريع حتى حين يظهر في غلف الفصل بين ‘الدعوي ‘’ و’’السياسي ‘’ .فذلك كلام معناه أن ليست لنا عقول ...
غير ان الاخطر في معركة استكمال الاستقلال الوطني ‘’ انما هو العمل الثقافي .فما انتشر العنف والرعب في واقعنا الا لانه ثمة بيننا من مكّن له من أذهان أبنائنا وغرر بهم وخانهم شرّ خيانة .فالمرور من الدولة الوطنية ’ دولة الاستقلال ’تلكم التي بناها ذلكم الذي كنا نسميه-عن جدارة- المجاهد الاكبر ’ الحبيب بورقيبة رحمه الله ’الى الدولة الوطنية الديمقراطية ’تلكم التي اقتضتها ثورة شباب مدرسة الجمهورية ’’’ثورة الشغل والحرية والكرامة الوطنية ’ لن يكون ذلك ممكنا الا بتجاوز جميع اشكال العمل السياسي المستند الى ثقافة الحقد والغش والانتهازية .