إنها بداية التأريخ لإبداعات وإسهامات ونجاحات عصيّة عن الموت وفعل الزمن . من قال إن منصف السويسي قد مات والمسرح الوطني لا يزال قائم الذات، وقريبا أيام قرطاج المسرحية ستحتفل بعيد ميلادها 18؟ أليس هذا الرجل هو الباعث لهذه المؤسسة والمؤسس لتلك التظاهرة...فهو لم يمت إذا ؟ !
ذات يوم حزين توّقفت فيه عقارب الساعة عند الخبر اللّعين ... في صوت منهك، متعب، متقطع... أعلن منصف السويسي خبر مرضه بالداء العضال، كاشفا لـ»المغرب»: «لقد ابتلاني الله بغول السرطان ... وماذا عسانا نفعل أمام مشيئة الخالق! وها أنا أنتقل من فترة إلى أخرى للمستشفى العسكري للخضوع لحصص العلاج الكيميائي...» ولكن جشع هذا الداء الخبيث أبى إلاّ أن يجهز على بقايا الحياة في جسد أعطى كثيرا للحياة وللمسرح وللفن...
50 سنة من المسرح والتأسيس
دون جلبة وضجيج في الحلبة، اختار الكبير منصف السويسي أن ينهي معركته الأخيرة مع المرض القبيح في مشهد تراجيدي لا يقل في شاعرية الخشبة وجمالية الركح عما قدمته طيلة عمر من الصولات والجولات على منّصة المسرح ... لكن هذه المرّة لم ينتظر منصف السويسي تصفيق الجمهور ولم يقم بتحيّة الحاضرين بل غادر في صمت...في هدوء ...في وقار كبير ...
يوم الأحد 6 نوفمبر 2016، كان رحيل المسرحي منصف السويسي في فصل الخريف، في يوم خريف المسرح التونسي. هذا السفر الأخير للفنان الكبير الذي يعد أحد أعلام المسرح التونسي والعربي كان بعد مسيرة فنيّة خصبة امتدت على 50 سنة وتجربة مسرحية مهمة ساهمت في تطوير التجربة المسرحية العربية تدريسا وتأطيرا وإخراجا... وقد اقترن اسم هذا الرجل بفكرة «المشروع» وارتبط ذكره برغبة «التأسيس» انطلاقا من بعث فرقة الكاف للمسرح، مرورا بولادة أيام قرطاج المسرحية، وصولا إلى إقامة المسرح الوطني...
وفي حديث سابق لـ»المغرب» مع الراحل منصف السويسي تحدث الفنان القدير باعتزاز كبير عن مسيرته المسرحية قائلا:»كلّ زادي في هذه الدنيا هو 50 سنة من العطاء المسرحي و60 مولودا من جنس الفن الرابع... ولقد حاولت من فوق خشبة الركح أن أخدم الثقافة الجادة المحرّرة للعقول والمنيرة للقلوب والمحرّضة على الفكر التعددي والمؤصلة لقيم الحرية والمدافعة عن الحق والمناصرة للعدالة الاجتماعية...وهذا نابع من كوني مسلما علمانيا أدافع عن الإسلام لأنه عنوان الحرية والحق والخير وأتفحص ما جاء بعد الإسلام من رؤى وفلسفات في إطار الانفتاح والحوار... فالانغلاق قاتل والاجتثاث استيلاب!».
مسرحية «النمرود» حفظت كرامة الفنّان
دون استئذان وبكل وقاحة، باغت الدّاء اللعين وداهم المرض الخبيث جسد منصف السويسي في تهديد لحياة فنان كبير وفي وعيد لأنفاس مسرحي قدير ... وأمام التكاليف الباهضة للعلاج والأسعار المرتفعة للدواء لم يسأل منصف السويسي يوما عن معونة أو دواء إذ أن «الهجرة»
في تسعينات القرن المنقضي إلى الخليج العربي كانت بمثابة الملاذ والرحمة التي حفظت ماء وجه صاحبها وجنبته شرّ السؤال ومذّلة الحاجة بعد أن تبّرم الزمن وتلوّن الدهر في عيون المخرج منصف السويسي، وفي هذا السياق صرّح الراحل لـ «المغرب» في حوار سابق بالقول: «لا أنتظر شيئا من وزارة الثقافة أو الحكومة التونسية ... فعملي لسنوات بالخارج أمنّ لي عيشا كريما ورصيدا محترما لمجابهة تكاليف العلاج ومصاريف التداوي ... وإلى الآن، لازالت مسرحيتي «النمرود « تجوب مسارح العالم ... ولكني أدعو الوزارة إلى سداد دينها في حقّي والذي يناهز 8 ملايين والكف عن المماطلة والوعود غير الجدية... خصوصا أن هذا المبلغ من شأنه أن يساعدني على التكفل بمصاريف العلاج ومقاومة المرض الخبيث بعد أن انتشر «السرطان» في مفاصل جسدي...»
«لم يمت أحد تماما ..تلك أرواح تغيَّر شَكلها ومُقامها»... هكذا قال محمود درويش ولهذا فإنّ غول السرطان كما يسمّيه منصف السويسي كان انتصاره الجبّان وهما وخرافة أما البطولات المسرحية والانتصارات الركحية لصاحب مسرحية «النمرود» فهي الحقيقة الباقية...
«السويسي» ونصف قرن من العطاء
نحت منصف السويسي على امتداد نصف قرن من العطاء ملامح مسيرة ثرية في سماء الفن الرابع وخاض تجارب مسرحية عديدة، منها: «البلاد طلبت أهلها»، تأليف الراحل عبد اللطيف عقل، «باي باي لندن»، و«باي باي عرب» تأليف نبيل بدران، «ثورة الزنج» تأليف الشاعر معين بسيسو، «واقدساه» تأليف يسري الجندي، «السؤال» محيي الدين زنكنة،«الحلاج»، و«ديوان ثورة الزنح» للكاتب عز الدين المدني، «مولاي السلطان الحفصي» و«عطشان يا صبايا» للمؤلف سمير العيادي، «اللي يقال واللي ما ينقال» تأليف منصف السويسي، «4 ساعات في شاتيلا» جان جينيه، «مهاجر بريز بان» جورج شحادة، » شكسبير آش جابولينا« للمخرج محمد كوكة ...
المنصف السويسي : مواقف ومقولات ...
قبل الرحيل المؤلم والفقدان الموجع، لم يكن منصف السويسي يبخل علينا بالحديث و»الدردشة» في شؤون المسرح والثقافة، فكان لـ»المغرب» معه أكثر من حديث لأكثر من مرة، وفي ما يلي نبذة عن أهمّ مواقفه وآرائه وأقواله:
• من لا يراهنون على الثقافة... هم عندي أعداء الوطن
• لا نزال في حديثنا عن التنمية، نذكر الطرقات والجسور ومراكز الأمن والمدارس والمستشفيات وكل ما يتصل بالبنية التحتية دون أن ننتبه إلى حتمية التنمية «الفوقية» المتمثلة في تطوير العقول.
• أضحت مدننا عبارة عن غابات إسمنتية وأدغال من البناءات يتوفر فيها كل شيء ماعدا الفضاءات الثقافية!
• أحلم بإحداث مسارح في أكثر عدد ممكن من الأحياء السكنية وأن يكون لكل 5000 ساكن مسرحا ...