فهذا الفيلم كان عبارة عن سيل من العواطف وبحر من الانفعالات تأسر الجمهور حتى النهاية ليخرج من القاعة ولسان حاله يقول :» ما أفظع الحياة حين تنعدم فيها الإنسانية؟ !»
بحضور بطلته النجمة هند صبري قدّم أمس المخرج رضا الباهي العرض الأول لفيلمه الجديد «زهرة حلب» في عرض خاص بالإعلام قبل ساعات من الافتتاح الرسمي للدورة 27 من أيام قرطاج السينمائية. ويجسد أدوار بطولة هذا الفيلم الروائي الطويل كل من هند صبري وباديس الباهي وهشام رستم ومحمد علي بن جمعة وريّا العجيمي وبسام لطفي وجهاد الزغبي...
بساطة في اللغة السينمائية وعمق في الطرح والقضية
«زهرة حلب» فيلم أثار الفضول منذ الإعلان عن انطلاق تصويره ربما لأهمية موضوعه المتعلق بوقوع عدد من الشباب التونسي فريسة لاستقطاب التنظيم الارهابي «داعش»، وربما لنجومية بطلته هند صبري التي تدير الرقاب أينما ظهرت، وربما لشهرة مخرجه كواحد من أهم المخرجين في تونس ... وأخيرا أصبح عرضه متاحا للجمهور بعد أن وقع الاختيار على «زهرة حلب» لافتتاح أيام قرطاج السينمائية في دورتها 27 التي تتواصل إلى غاية يوم 5 نوفمبر 2016.
لم يذهب بعيدا، ولم يحلّق في سماوات الخيال والعجائب بل من عمق الواقع ومن صميم الراهن اقتبس المخرج رضا الباهي قصّة «زهرة حلب». فكانت حكاية عائلة اكتوت بسفر ابنها الوحيد إلى سوريا للالتحاق بصفوف الارهابيين في «داعش» مثلما أصابت اللوعة عائلات تونسية استفاقت على صدمة فرار أبنائها إلى هناك، إلى «أرض الجهاد».
ولم يكتف رضا الباهي بالتعامل مع أبطال فيلمه من الزواية الدرامية البحتة أو الفنية الصرفة بل استنجد بتكوينه في علم الاجتماع ليطبع الفيلم والشخصيات بخلفية سوسيولوجية تنبّه للسبب وتشير للعلل دون التوّرط في التعاطف المجاني مع «الضحية» أو التحامل المفتعل على «الجلاد» ... وما بين الضحيّة والجلاّد التزم رضا الباهي الحياد وحتى عند تطرقه إلى الحرب السورية لم يبد موقفا ولم ينتصر إلى أي طرف بل ساءل الكلّ عن اغتيال الإنسانية بكل وحشية !
«زهرة حلب» يهدي الزهور للمرأة التونسية
بكل براعة في الظهور ورشاقة في التمثيل، أبدعت هند صبري في تقمّص شخصية الأم «سلمى» تلك الممرضة المسعفة التي تعيش رفقة ابنها الوحيد بعد انفصالها عن زوجها... وهو ما أحدث شرخا نفسيا في شخصية الابن «مراد» الذي تقاذفته أمواج التيه والضياع بعد عودة الأسرة من فرنسا وطلاق والديه وانشغال الأم بعملها ولامبالاة الأب... فكان هذا الشاب الذي لا يتجاوز عمره 18 سنة طعما سهلا للصيد من طرف جماعات تسفير الشباب إلى سوريا. وبالرغم من ممارسته لهواية الموسيقى ونشأته في وسط فنّي، إذ أن الأب يمتهن النحت والخالة تجيد فنّ الرقص إلاّ أن هذا المناخ المنفتح اجتماعيا والمقبول ماديا لم يقِ «مراد» من الارتماء في أحضان «داعش» وإرهابه بسبب الفراغ العاطفي وعدم الاستقرار النفسي ...
وأمام الكارثة التي حلّت بها، لم تقف الأمّ سلمى مكتوفة الأيدي في انتظار المجهول بل اختارت أن تركب الخطر وتلحق بابنها إلى أرض الموت مقابل سلبية الأب وتسليمه بالأمر الواقع... ولعلها تحيّة أرادها المخرج رضا الباهي إلى المرأة، إلى الأم، إلى التونسية الشجاعة، الجبارة، المضحيّة...التي لا تقبل الاستسلام ولا ترضى بنصف المواقف.
في نهاية الفيلم، كان المشهد غارقا في المأساوية إلى حدّ الوجع المرير والألم الفظيع. وكاميرا المخرج تنقل صورة قتل مراد الذي أصبح إرهابيا لأمّه سلوى التي انتحلت شخصية «المجاهدة» لتعقب آثار ولدها... فكان جزاؤها القتل على يدي فلذة كبدها التي تكبّدت من أجله رحلة العذاب ووحشية الاغتصاب، وحتى إن كانت هذه الجريمة في حق الأم على وجه الخطأ، فقد أراد المخرج بهذه النهاية الحزينة أن يشير إلى الثمن الباهظ الذي تدفعه الإنسانية بسبب الإرهاب، في زمن «داعش».
عند مشاهدة «زهرة حلب» قد يبقى وحده جسدك جالسا على الكرسي أما أفكارك وعواطفك فالأكيد أنها ستسافر بك إلى هناك، إلى زمان ومكان الفيلم ... ألم يقل أحدهم:» «وحدها الأفلام الجيدة هي التي تنسيك أنك جالس في دار السينما» .
هند صبري لـ «المغرب»:
«زهرة حلب» دراما اجتماعية بعيدة عن التأويلات السياسية
بعد 7 سنوات من الغياب عادت هند صبري إلى السينما التونسية وإلى أيام قرطاج السينمائية التي توّجت فيها بجائزة أفضل ممثلة سنة 1994 عن أوّل أفلامها «صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، لتلعب دور البطولة في فيلم «زهرة حلب». وقد عبرت هند صبري في تصريح إعلامي إثر انتهاء العرض الأول للفيلم عن سعادتها بافتتاح هذا العمل السينمائي الذي شاركت فيه كممثلة ومموّلة لخمسينية مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
وعن مضامين ورسالة «زهرة حلب» قالت هند صبري في تصريح لـ»المغرب»:» يهتم الفيلم بقضيّة إنسانية بحتة، امرأة تطمح إلى النجاح وتحقيق ذاتها في بلدها، في تونس ما بعد الثورة فيكون ثمن هذا الطموح أو الحلم تشتّت عائلتها وضياع ابنها ... لهذا فهو دراما اجتماعية بعيدة عن التأويلات السياسية».