استفزّ غيظه وغضبه وانتشاءه فكل رقصاتك مستفزة.
عشق الجسد ولغته، تماهى مع تاريخ جسده فقدم «التهويلة» وحاول الجمع بين المعاصر والشعبي في «خيرة ورشدي»، تماهى مع العمال وعايش وجيعتهم فقدم «زوفري»، ثم عاد بذاكرته الى الطفولة الى رائحة الام وعطرها اكتشف مخزونا كبيرا في داخله يحمله الى المرأة التي ظلمها المجتمع والعادات حاول ان يحررها فرقص لها «وإذا عصيتم» وقال «اذا عصيتم فارقصوا ثم ارقصوا، حاول البحث في التاريخ وقدم للجمهور تاريخ الخطوة التونسية وتحدث عن الوطن بجسده فقدم دور «الهياب» في «الزقلامة» ثم حاول تحرير راقص منسي واخرجه من غياهب النسيان وقدمه الى الجمهور التونسي ورقص لـ «ولد الجلابة»، جميعها عروض حاول فيها الكوريغراف ان يكون «انا التونسي» كما قال.
زوفري وافتخر
مع اللغة الصامتة حد الانتشاء، يحادثك بجسده، لكل رقصة حكاية وتاريخ، لكل حركة من جسده شعائرها الاجتماعية ومنظومتها و قصة تتحدث عن المنسيين والمنبوذين اولئك الذين اسسوا للرقص في تونس سواء كانوا راقصين رجالا او نساء، جسده الياذة دينية و شعرية بها يبحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي والديني لتونس وجسده صرخة ضد التهميش والنسيان هكذا يمكن الحديث عن كل اعمال الكوريغراف رشدي بلقاسمي.
«الزوفري» او «الرقّاص» او «الراقص العاري» جميعها القاب اطلقت على الكوريغراف رشدي بلقاسمي منذ عرضه الاول الذي اتخذ فيه الخطوة التونسية شعاره وطريقة عمله.
«جسدي درس في التاريخ ، الرقص في تونس مهنة لا يعرف الكثيرون تاريخها لذا احاول ان يكون جسدي حمال رسائل تاريخية، كما انني ارقص لأفنّد مقولة عورة الجسد «فالجسد وعاء كل القيم» على حد تعبير نيتشه.
وارقص على مقولات العيب والحرام والعادات فالجسد حكاية الانسان وبالجسد يمكن كتابة رسائل مشفرة كلها تندّد بالعنف والنسيان والتجاهل» .
من «التهويلة» الى «خيرة ورشدي» فـ «زوفري» الى وإذا عصيتم فاللوحات الراقصة لعرض المنسية فالزقلامة ثم ولد الجلابة لايزال رشدي بلقاسمي مختلفا في طريقة رقصه ومع كل عرض يزداد استفزازه للمتفرج وتزداد رغبة الراقص في الكشف عن الممنوع و المحظور اكثر لانه «اتخذ شعار الكشف عن المطمور وتسليط الضوء على مايريد البعض طمسه» على حد تعبيره.
أغلب متابعي المشهد الثقافي وخاصة الرقص عرفوا رشدي بلقاسمي بعرض «زوفري» ومنذها والكوريغراف يسمى «الزوفري» لقب يحبه الفنان كثيرا، لقب كان شتيمة اصبح من اجمل الكلمات التي ينعت بها الفنان الذي اتخذ الرقص طريقه.
وزوفري هي رقصة الغضب وصرخة في وجه عالم مرّ، رقصة تنقل حكاية عمال المناجم والموانئ في القرن التاسع عشر، رقصة رجالية تقدم في هيكل الجسد الذي يحترق تدريجيا بالشمس الحارقة واللهيب القاتل رقصة ضد الرتابة والملل، رقصة لبس فيها الكوريغراف «الدنقري» فاتهمه البعض بالسطو على أفكار الغير ولكن الراقص أثبت بأعماله المتتالية أنه يريد صنع طريق متفرد ينطلق فيه من المرجعيات الدرامية لان تكوينه أساسا مسرحي.
«انا تونسي، تونسي علاش نشطح رقصة لا تمثلني»
من مدينة مساكن من ولاية سوسة انطلقت حكاية تصالح الكوريغراف مع جسده، منذ الصغر شارك في النوادي المخصصة للرقص، ثم مع جلال دومة ودرس المسرح في المعهد العالي للمسرح ثم عاد الى الرقص لأنني «اريد ان يكون جسدي صوتا للحقيقة، فحتى حين مارست المسرح كنت اميل للحركة اكثر من الكلام».
من الذاكرة انطلقت جل اعمال الكوريغراف ، ففي ذاكرته الطفولية صور لامه وللمرأة ولها قدم عرض «واذا عصيتم» ففي ذاكرة الفنان خزن صوتا ينادي «اخرج اشطحلي يا رشدي، اشطح للمرأة، اشطح وزيد اشطح « وكذلك يفعل على الركح يرقص للمرأة للحياة وللتحرر من كل قيود المجتمع، صور الطفولة وذكريات الصغر المخزنة في لاوعيه ومنه إلى الذاكرة الجماعية والمجتمعية ليصرخ بجسده من أجل حرية المرأة.
«العلاجي، القبيحي، المربع، بونوارة وغيرها من الاسماء هي زاد رشدي بلقاسمي ونبراسه وهدفه، حين يُسألُ لماذا ترقص الرقص الشعبي التونسي يجيب «أنا تونسي، ولدت في تونس، بدني تونسي فلم أرقص رقصة لا تمثلني».
الرقص التونسي ليس مجرد حركات، فالخطوة التونسية تاريخ وذاكرة وحاملة للعديد من القضايا «منذ البداية هدفي ان اقدم الرقص الشعبي في ركح معاصر، لم لا اقدم رقصة امي وجدّتي، لم لا ارقص للمرأة ، ولم لا ا قدم تراثنا التونسي للاخر، لم انساق وراء رقصة الاخر رقصة تمثله هو ولا تمثلني» هكذا يتحدث عن محبته لما يقدمه وللخطوة التونسية.
فكل اعمال الكوريغراف تونسية الحركة والموسيقى والاحساس، تونسية التاريخ والانتماء، رقصات يبحث معها الكوريغراف عن كل جوانب الحقيقة
« فالحقيقة ليست تمثلا، أي ليست محاولة لاستدعاء الشيء ليتطابق مع ما في الذهن، وإنما هي استكناه: كشف عن كينونة الكائن، والكشف تأويل، سادية مع النص، إذ لا تأويل دون تغيير أو حركة، والحركة هي في جوهرها فكر، والفكر يغيب كلما أمعنت الكينونة في الحضور بحيث لا يجليها إلا حدس، معرفة مباشرة، كسر صوفي للصدفة نحو ذلك الارتجاج السديمي الذي لا يدركه إلا من تعلم كيف يرقص» كما كتب نذير ماجد في الحوار المتمدن.
الرقص تاريخي...والاستفزاز هدفي وسيذكرني التاريخ لاختلافي
تونس، فرنسا بلجيكيا ، الكوت ديفوار فللمرة الاولى في لبنان مع مترو المدينة، في جميع هذه الدول وغيرها رقص الكوريغراف رشدي بلقاسمي وقدم الخطوة التونسية لجمهور ثقافته مخالفة ورقصه مغاير ايضا، لجمهور ربما لا يعرف تونس رقص على الطبلة وحرك جسده بحرية ليشد انتباه واستفزاز الاخر، فكتبت الصحافة المغربية عن «راقص مستفز» وقالت الصحافة اللبنانية «راقص تونسي يستفز بيروت برقصه المشاكس وهو شبه عار» .
هكذا هي رقصات رشدي بلقاسمي مستفزة، فكل عمل يختلف عن الاخر من حيث الفكرة والمضمون ولكنه يشترك في الاستفزاز يقول عن رقصه” لا يهمني ما يقال، ولا تخيفني التهديدات، لاني اعشق ما اقدم، ارقص لأستفزك ارقص رقصة النساء لأنصفهن، وارقص لأكشف كل سلبيات المجتمع و ممنوعاته، جسدي صوت للحرية ولن يخمد هذا الصوت ما دمت أرقص، ومستعد للرقص عاريا تماما ان تطلب العمل ذلك”.
في كل العروض يرقص بلقاسمي شبه عار وكأنه يحرر الجسد حتى من قتامة الثياب الاخرى التي تريد اخماد اللهيب المستعر لجسد متعطش للحرية، جسد اختاره صاحبه ليكون اداته للحديث عن تاريخ هذا الوطن، فرقصاته ليس مجرد حركات او تسلية بل هي وثائق تاريخية حية و ملتهبة كشعلة اولمبية لا تقبل الانطفاء.
فللرقص وظيفة تاريخية على حد قول رشدي بلقاسمي فهو يعتقد أن الجسد حامل لتاريخ وثقافة البلاد وان لم يكن كذلك فهو يعيش حالة من الانفصام و«شخصيا أتكلم كثيرا عن ذاكرة الجسد التي تمثل أرشيفا يحدثنا عن مبدعين كانوا بيننا ولكنهم رحلوا دون وثائق أو صور وإنما أجسادهم كانت وسيلة للتعريف بهم كما اللغبابي وزينة وعزيزة وزهرة لمبوبة ولد الجلابة، وأحاول استنطاق الجسد لأعرف تاريخ فترة ما»..
والجسد اليوم هو المرجع الأول والأخير عندي لأي معلومة أريد البحث عنها أو إجابة مبهمة تحيرني، فالرقص بحث انطروبولوجي هو بحث كامل ومتواصل عن شيفرات وعلامات، فلكل رقصة حكاية ولكل رقصة علاقة بالواقع فالعلاجي أو البغدادي أو الجلوالي لكل منها علاقة بما يعيشه صاحبها، فالرقص مرجع، وأنا ارغب في البحث المتواصل عن الحقيقة عبر جسدي.
من يستطيع الرقص حتما يستطيع مراقصة الكلمات المخنوقة ومغازلة التاريخ وكشف المستور عنه، هكذا هي اعمال رشدي بلقاسمي فنان تكوينه مسرحي ومنه انطلقت مسيرة كوريغراف او «رقاص» محترف كما يقول عن ذاته، فنان اسمر سمرة تراب هذا الوطن جعل من جسده تعويذة سحرية تتغنى بتونس بجزئياتها بفنانيها بتاريخها برقصها، تعويذة جد خاصة وحده يعرف فك شيفراتها و وحدهم عشاق الرقص التونسي يستمتعون بتلك التعويذة.
رقصات وكأنها استحضار للآلهة قديما فحركاته وكأنها صوت «ايرانو» الهة الشعر، وبحثه المتواصل وكأنه تجسيد «لكيو» إله التاريخ، و محبته لما يقدم كما ترانيم «بوليهيمنا» الهة الترانيم، ورغبته في التجديد وكأنها محاكاة لـ»اورانيا» الهة العلوم الفلكية.
رشدي بلقاسمي او «لغبابي» القرن الواحد والعشرين لم تقتصر تجربته على الرقص فله مشاركات في السينما على غرار فيلمي «السيدة المنوبية» لامنة بن عياد، و «عشق رجال» لمهدي بن عطية والمسرح ونذكر «ستريبتيز» لمعز مرابط وهو يستعد صحبة الفنان المميز سامي الجمي لتقديم عمل «زندالة» للعام 2017.فالجسد هو عنوان انخراطنا في الحياة كما تقول فلسفة نيتشه.