وبين ساحات الطبيعة وأنظمتها الايكولوجية ومحمياتها وترابط أصنافها وعناصرها النباتية والحيوانية وغيرها..رغم كل ذلك يطرح التحدي ويواجه البيئيون إشكالا مزدوجا مفاهيميا وعمليا.
إذ يطلب منهم في البداية تصحيح النظرة وتعديل الرؤية وتجاوز الفهم الجزئي القاصر الذي يحصر البيئة في دائرة النظافة والفضلات، ويغفل التنوع البيولوجي والقضايا الكبرى العابرة للحدود وعلى رأسها ظاهرة تغير المناخ وتداخلها مع عوامل وتحديات متعددة مرتبطة بنشاط البشر ونمط الاستهلاك والتنمية المدمر للتوازنات والمستنزف للموارد والمغفل لقواعد الديمومة والتوازن الايكولوجي:
من أين نبدأ لتجاوز الخلل الأصلي الذي يعطل المشروع ويفسد المقاربة البيئية المأمولة؟
هل يتوجب التعاطي مع البيئة كتفاصيل وأجزاء والبدء مثلا بمشكل النفايات أم أنها الشجرة التي تغطي دوما وحتما الغابة؟
كيف السبيل إلى تبني رؤية ومنهج لدراسة الاشكالات البيئية عندنا واقتراح الحلول الملائمة لها وهل يمثل نهج الطرح الراهن لها مدخلا ملائما ومناسبا للإصلاح والتجاوز؟
بعيدا عن جلد الذات ينتهي المتأمل إلى أن المقاربات المتتالية لحكوماتنا المتعاقبة تشير إلى غياب رؤية واضحة ومنهج ثابت وراسخ في التعاطي مع البيئة وبعضها اعتمد النظافة والقمامة مدخلا رئيسيا ربما الوجه الأساسي وربما الوحيد لتناول البيئة.
وبعض سياسيينا لأسباب متعددة أصيبوا بتشوه في النظر وباتت حاوية الفضلات تحجب عنهم الرؤية وتعطل إدراكهم لكافة جوانب المسألة، ومكونات المعضلة، بما فيها المياه والتصحر والأمن الحيوي والسلامة الجينية ودعم المحميات وتأمين المناطق الرطبة والهشة والحساسة وتعزيز المساحات الخضراء والتحكم في إفرازات المصانع وتدوير الفضلات وغيرها
وفي غياب رؤية وسياسة عمومية متكاملة للبيئة وفي سياق البحث عن طريقة لإعادة التوازن للفهم والإدراك العام والرسمي والنخبوي للبيئة وفق منظورها الكوني وخصوصيتها السياقية المحلية، توجب بعث دينامية توعية وتكوين وتحسيس وتنشئة واتصال بيئي من شأنه تعميم الفهم وتوسيع الإدراك الجمعي ومن ثم الإقرار بالأولوية القصوى للبيئة ومن ثم التبني المجتمعي للمسألة البيئية
ولا حرج في طرح بعث مؤسسة أفقية جديدة للتنشئة والاتصال والثقافة البيئية تتقاطع مع مختلف الأجهزة والمؤسسات الوطنية للتربية والثقافة والتكوين والإرشاد الديني والعمل الجمعياتي البيئي.
المطلوب بعث مؤسسة تنسق التدخلات وتوحد الجهود وتركز العمل الدراسي والتخطيطي والاستراتيجي وتكاملية الأدوار في مجالات بناء الحس المدني والمواطنة البيئية تعد لبرامج متناغمة تسهم في إعدادها وتنزيلها في الواقع برامج وأنظمة تربية وتكوين وتوعية لإعادة بناء الوعي واللاوعي والضمير البيئي الجمعية أكثر من التدخلات الظرفية والمسقطة كالحملات والقرارات الطارئة المتناثرة
كما يتوجب أن تبنى هذه المقاربة على ركيزة متينة من تقييم وتشخيص موضوعي لسيرورة المنجز واستشراف الممكن وفق الخصائص الثقافية المجتمعية والمؤسساتية وبناء منظومة وطنية للتربية والاتصال البيئي يشترك في إنشائها الخبراء والاطارات في مجالات التربية والعلوم الانسانية والثقافة والبيئة.
إن واحدا من بين ثلاثة أخطاء يصر عليها البعض منذ الثورة، مع غياب الرؤية وعدم الاستمرارية والتراكمية بين الحكومات المتعاقبة ، الانطلاق من مسلمة مغلوطة بخصوص النظر للبيئة من خلال جزء بارز بفعل أزمات النفايات واستحقاقاتها اليومية الضاغطة والتمثل في النظافة بما يشكل تهديدا لبقية مكونات المنظومة البيئية التي تلقى اهتمام بعض الدوائر القطعية منفردة.
كما إن عدم التعاطي مع القضية بما هي مشكلة ذات جذور أصلها ضارب في الوعي واللاوعي أو في قلة وعي ومن ثم فالحل يكمن في إعادة التأسيس وتشييد البناء على قواعد ثابتة من المعرفة والإدراك الدقيق لمختلف جوانب البيئة وعناصرها وثرائها وترابطها المنظوماتي وارتباط الموارد البيولوجية وسلامتها وديمومتها باستدامة الحياة والتنمية.
فالسير إلى أفق بعيد رحب من الأمل والأمن يتطلب وعيا وحسا بيئيا شفيفا يعي خطورة الاستباحة واستهداف أي من مكونات المنظومة البيئية من شريط ساحلي وغابة وجبل وجزر ونبات ومنطقة رطبة وحساسة وغيرها.
لا يمكن دعوة المواطنين إلى احترام البيئة في غياب عمل منهجي منظم بالتربية والاتصال والتنشئة على قيم وسلوك المواطنة كشعور بالتملك والانتماء.
لن يتسنى الانعتاق من حال النظر المصلحي والسطحي للبيئة في غياب رؤية وطنية وتجند مجتمعي والتزام الدولة عبر جهاز أفقي مؤهل لتشكيل وعي ملائم وذهنية مساعدة على التحرك الفردي والجماعي وفق ضوابط حماية الموارد والمنظومات والمشترك الايكولوجي مع التحرك اللازم للضبط وردع المخالفين وصد كل تجاوز وإخلال.
تجديدا لمقترح قدمته أهملته وزيرة البيئة قبل ثمان سنوات، مطلوب استشارة وملتقى وطنية وإطلاق حكومي لورشة بناء مشروع وطني جامع في مجال التواصل والتنشئة على المواطنة البيئية والتفكير في بعث مرصد أو كالة أو جهاز أفقي راجع بالنظر للرئاسة يجمع بين مربين ومثقفين ووعاض ومختصين في البيئة.
قبل عقود أحدث لبيب ونفذ برنامجا وطنيا للثقافة والتربية والتوعية البيئية، وبعثت قافلة بيئية جابت مئات الجهات والمدارس مع الجمعيات بتعاون ألماني واسباني وتنوعت المبادرات الاعلامية والتواصلية بصرف النظر عن الأثر والنجاعة والنجاح.
لمَ لا يلقى مثل هذا المشروع أي اهتمام ولا يولد في السنوات الأخيرة أي مقترح أو برنامج يتجه للتربية والاتصال ويراهن على الثقافة البيئية ؟
لم لا يراجع المعنيون بعيدا عن ثقافة المطافىء و ردود الفعل والتدخل الطارىء والحملات الاستعراضية سلوكهم السهل ويقتحمون المناطق الوعرة ويبادرون لافتتاح طور من التهيئة لحل جذري عميق لإشكالاتنا البيئية عبر التفكير الجماعي والتشخيص التشاركي لإمكانات التأسيس الجديد لخطة استراتيجية بعيدة المدى لتشكيل سياسة بيئية وطنية تسهم في صياغتها وتنفيذها هياكل الدولة وقوى المجتمع وهو ما لا يتم دونما حوكمة وتشاور ومشاركة واسعة من الجميع بلا استثناء
إننا نهدر الوقت بتأبيد الوقتي وعدم التجميع حول الكفاءات وأهل الذكر والهروب للأمام مع تغذية تربة المفاجآت غير السارة والمبادرات المشبوهة التي تفوح نهبا وجشعا وتآمرا على الثروات والموارد والحقوق البيئية
والأخطر أننا نخدر لاشعور بالخطر البيئي رغم تحرك بعض فاعلي المجتمع المدني
وقد حاول الباحثون الإجتماعيون ، ضمن مقاربات تندرج ضمن سوسيولوجيا البيئة دراسة حالات الشعور بالخطر، باعتبار أنه من الظواهر الملحوظة في المجتمعات الحديثة، ونشير في هذا السياق لجهد بحثي سوسيولوجي يعكس اهتمام السوسيولوجيا بمسألة العلاقة التي تصل أو تفصل بين المجتمعات البشرية وعالم الطبيعة، فـ» بتساؤلها حول أثر الطبيعة على المجتمعاتالبشرية،سوف تتولى السوسيولوجيا التفكير أكثر من المألوف، حول التفاعلات بين المجتمعات وبقية العالم. وهكذا يفرض مصطلح البيئة نفسه، من حيث يحيل إلى أن مفهوم الطبيعة يعني الوسطالذي تندرج ضمنه المجتمعات بصورة من الصور
إن الحداثة المتقدمة ينطبق عليها تسمية «مجتمع المخاطر» كما بين والريش بيك ،حيث أن حالات – مآزق تردت فيها تعد وضعيات ناجمة عن علاقتها بالعالم ،وهي ضعيات تحيل على عجزها عن ملاحظة الطريقة التي تفكر/تتصور بوساطتها والعالم.
هذه المخاطر والأزمات ناجمة عن تطورات متواصلة قادتها رغبة الإنسان في الاكتشاف وصلت حد عدم القابلية للتوقع والشمولية ،وعدم إمكان التراجع ،وهي مخاطر لا تعرف الحدود.
ومن سمات هذه المجتمعات تضخم الفردانية على حساب تمثل الهوية الجماعية ،ومن ثم التكفل الفردي على حساب التماسك الإجتماعي.
ويعد هذا الشعور بالمخاطر والأزمات واحدا من العوامل والمنطلقات للإنطلاق في الفعل البيئي في محاولة لتجاوز وتلافي ذلك الواقع والتقليص من مخاطره «البيئية» يبرز الفعل البيئي في عديد الحالات، في محاولة لتحسيس الجمهور بالأضرار والتلوثات ونشر المعلومات العملية الهادفة لتعديل نمط العيش ،وتحمل أشكال الفعل مظاهر تشير لعدم تناغم بين انخراط قوى المجتمع المدني في المسائل البيئية،وعدم قدرة تحويل القلق إلى أنشطة ملموسة، ويبدو هذا الفعل البيئي كتفكير حول وسائل تجذير المشغل الجماعي في أشكال أو مظاهر الموضعةالإجتماعية التي من شأنها استدامة الهاجس البيئي.
ويستهدف هذا الفعل البيئي وتطويره تثقيف السكان حول البيئة،ومن ثم تقليص الضغوط التي تتعرض لها البيئة في المجتمعات الحديثة.وتحيل الأشكال التي يتخذها الفعل إلى مستوى الفكر السائد حول هذه المسائل.
كما تطرح خصوصيات هذا الفعل البيئي إشكاليات تخص مدى انتشاره داخل المجتمع، والتهديدات التي تواجه الطبيعة ،ومن ثم النشاط الإقتصادي والإنسانية ،وكذلك الإنفصال بين النظرية والممارسة.
لئن كانت الطبيعة محددة كواقع موضوعي يمكن ربطه بالعوامل الفيزيائية والكيميائية، فان الاشكال يطرح خلال عملية تحويل التمثلات إلى نموذج واقعي.
وفضلا عن الكشف عن الأضرار البيئية الناجمة عن الصناعة والتجارة،توجب بيان كيفية مساهمة الأفراد والأسر عمليا في تحسين الوضع البيئي،ويتم في هذا السياق تقديم اقتراحات لسلوكات وممارسات بديلة ،تبدو أحيانا كبدائل عن التدابير السياسية.
ويعمل البحث السوسيولوجي على ضبط الطرق والصيغ المنهجية الملائمة لضمان إحكام التأثير في الفئات المختلفة داخل المجتمع،والإسهام في التأثير على سلوكها تجاه البيئة إذيتجه التحسيس أولا إلى المنتخبين/المستشارين، لأنهم سيتخذون لقرارات ،وبالتالي فهم من سيتولى الإقناع بدرجة أولى ،ولكن ،وإذا أردنا أن يتسنى تسيير جل المشاريع وأن تعطي النتائج المنتظرة،فلا بد من تعبئة جميع الناس»
كما يبرز الفعل البيئي كتحرك مباشر ،يستهدف حماية البيئة ،ويتم الحرص على إبراز كيف أن هذه الحماية لا تمثل عقبة أمام حركة التنمية.
وتتسم عمليات الفعل البيئي بالطابع العملي ،وبالتواصل المباشر مع الأفراد ،وخاصة باعتبار أن الناس عادة يتحركون عندما يشعرون أنهم معنيون مباشرة ،حيث تتحرك مجموعة من الناس لإقناع مجموعات أخرى وتشريك الآخرين في الإحساس بكونهم جميعا معنيون بما يجري للبيئة وبضرورة التحلي بالمسؤولية تجاهها.
وتكتسي الأنشطة الرامية إلى تغيير التصرفات وأساليب التفكير والتصرف السائدة في المجتمع حالة من التعقيد والتشعب ، بحيث تتطلب توافر عديد العوامل الكفيلة بضمان التوصل إلى إقناع بعض الأفراد والفئات بالتخلي عن نمط تصرفها وسلوكها ، ف»يوجد أناس ليست لديهم حساسية حماية البيئة
وقد انطلقت العديد من الأفعال البيئية كمحاولات لرد الفعل على حالات تلوث ،ومن ثم تجميع اكبر عدد من الرافضين لها قصد تجميع أكبر حظوظ للتأثير.
و يرى البعض أنها حالات معاناة ونفور من مثل تلك الحالات، يمكن أن تتحول إلى تأثير بواسطة الآخرين، الذين يطرحون سؤال : ما الذي يمكننا فعله ؟
وهنا يتم اقتراح بعض الممارسات والسلوكات الجماعية التي تحمل معنى الرفض والإمتناع عن مجاراة نمط استهلاك وطبيعة الحياة السائدة،ومن ثم يتولد التطوع ضمن إطار العمل الجمعوي،واللجوء لأشكال من السلوك والإستهلاك على غرار الإقبال على النقل الجماعي.
ولقطع المسافة المطلوبة إلى وعي الناس وفعلهم ، توجب أن يتسم الفعل الجمعوي بالمقبولية من مختلف الأوساط وهو ما يحتم أن يتم معرفة ظروف ومشاكل الفئات المعنية ومن ثم مراعاة خصوصيات هذه الفئات ومتطلبات إقناعها باعتماد السلوك «البيئي» المقترح.
ونظرا لخصائص المجتمع الحديث فإن الإعلام والإتصال يمثل واحدا من الأسس التي ينبني عليها الفعل الجمعياتيتحركه،في محاولة لتحسيس وتعبئة مختلف الفاعلين. فالتوجه الذي يتخذه الفعل البيئي الجمعوي يقوم على تشخيص وقراءة الواقع،واقتراح إجابة لبعض المشكلات المطروحة وربما حتى محاولة فض بعض التشكيات ومصادر القلق وتذمر المواطنين ،فهذا الفعل الذي يرمي للتحول إلى حركة إجتماعية يستند إلى المواطنين.
الاتصال والتنشئة البيئية شرط حتمي للحل.
فبين التحركات الجمعياتية البيئية المتراكمة والتغيير البيئي ، حلقةهامة تتحملها منظومة التربية والاتصال البيئي المطلوبة لبرمجة جادة ومبنية على تفكير وتخطيط مبدئي ومنهجي لتفادي المبادرات المسقطة والأنشطة المتناثرة والعشوائية ضعيفة المدى والوقع.