في الجامعة الدولية الفرنكوفونية بالإسكندرية وفتح مخبرا للبحوث العلمية في تونس بالتعاون مع جامعة الطب وجامعة طب الحيوانات بسيدي ثابت وأجرى بحوثا هامة حول مبيدات الحشرات والطفيليات ومواد أخرى توجد في المياه و الحليب و حليب الأم والعسل والبيض وغير ذلك من المسالك وأفضت هذه البحوث إلى منشورات علمية في مجلات عالمية. وقام الأستاذ بوقرة بالإشراف على عديد الأطروحات في هذا الميدان في تونس وله مؤلفات مشهورة صدرت في فرنسا في دار «لاديكوفارت» وفي منشورات الجامعة الفرنسية مثل كتابيه الشهيرين «سموم العالم الثالث» و«التلوث المخفي». ولا يزال يكتب وبنشر مقالات علمية تحسيسية ملتزمة لإنارة الرأي العام في تونس وفي العالم حول مخاطر استخدام المبيدات. تفضل الأستاذ العربي بوقرة بالإجابة في باريس عن أسئلتنا.
• أطلقت أخيرا صيحة فزع حول استعمال مادة الغليفوزات (Glyphosate) في تونس و عدد من المواد الكيميائية الأخرى في الزراعة مثل المبيدات للحشرات و الأعشاب الطفيلية و المواد الكيميائية المستعملة في المنازل. هل تفسر لنا أسباب هذه الصيحة؟
الملاحظ يرى أن كل ما يقع في فرنسا تقع حوله في تونس ضوضاء و نتكلم عنه و يعرف التونسيون الأمور السياسية الفرنسية أحيانا أحسن من عديد الفرنسيين. الشيء الذي يلفت النظر هو أن مادة «الغليفوزات»، مبيد النباتات الطفيلية في الزراعة، أكانت أشجارا أو قمحا أو شعيرا، تسحب الضوء و الماء عن الأشجار المفيدة ولا بد من إزالتها. اليوم هنالك صيحة فزع حول هذا السم في العالم إلا في تونس. ناهيك أن برنامج الرئيس ماكرون الانتخابي في فرنسا أخذ على عاتقه منع هذا المبيد في المستقبل. وصارت حول هذه المادة ضجة كبيرة في البرلمان الأوروبي . وفي أمريكا نشرت العديد من القضايا أمام المحاكم ضد شركة «مونصونتو» التي اشترتها مؤخرا شركة «بايار» لأن العديد من مستعملي هذا المبيد أصيبوا بمشاكل صحية خطيرة مثل السرطان. أضف إلي ذلك أن مركز البحوث العالمي حول السرطان التابع لمنظمة الصحة العالمية و الموجود بمدينة ليون الفرنسية يقول إن هذه المادة «سرطان محتمل». لا يمكن الجزم 100 % لأن أسباب السرطان يمكن أن تتأتى من تعاطي السجائر أو المواد الكحولية إلى غير ذلك. لكن علميا تعتبر هذه المادة «سرطانا محتملا». الغريب في الأمر أن في تونس لم يحرك ذلك ساكنا لأحد حول استعمالها.
• هل ينسحب هذا الموقف على السلطات الرسمية والحكومية في تونس؟
هذا ينسحب على السلطات لأن «الغليفوزات» موجود رسميا في تونس ضمن قائمة منشورة في 18 أكتوبر 2017 صادرة عن وزارة الفلاحة. الغريب أن الاستعمالات تضم 6 أو7 مواد مباعة وجدت فيها هذه المادة التي تستخدم أيضا تحت اسم «راوندأب» (Round Up). من ناحية أخرى، لم نسمع وزارة الفلاحة تحرك ساكنا أمام هذه القضايا العدلية المنشورة أمام القضاء الأمريكي والذي حكم فيما لأحد المتضررين بملايين من الدولارات لفائدته. وصدر كذلك في فرنسا حكم يتعلق بفلاح تعرض لأضرار جراء مادة أخرى كيماوية. مسؤولية الحكومة التونسية واضحة .لا يمكن أن تكون هذه الضجة في أوروبا وأمريكا و تدخل البرلمان الأوروبي والبرلمان الفر نسي و نحن لا نعبر على أي موقف مثل إطلاق إنذار أو التعبير على أخذ احتياطات إذا لم تناد الحكومة بمنعه تماما. لا بد من تذكير الناس بمضار هذه المادة.
• بالنسبة لهذا الموضوع، كيف ترى دور اتحاد الفلاحين التونسيين و النقابات الجديدة ومنظمات المجتمع المدني؟ هل هنالك عمليات توعية من قبل هذه المنظمات؟
أنا أعيب شخصيا على اتحاد الفلاحين أنه عندما تقول التلفزة التونسية في نشرياتها الخاصة للفلاحين أن عليهم أن يستعملوا الدواء ضد الطفيليات و الحشرات و الفطريات، لا تقول هذه البرامج «السم» بل تستعمل كلمة «الدواء». و في الحقيقة هذه المواد برمتها هي سم. أنا أعيب على الإتحاد أنه لا يتعرض لمثل هذا الكلام. ثانيا، أرى في تونس أشياء أساسية. عندما يقدم المرشد الفلاحي النصائح التقنية للفلاحين لا بد أن يكون بعيدا كل البعد عن المصالح المرتبطة بهذه المواد. لا بد من تركيز هذه القاعدة في تونس لضمان أن يكون المرشد بعيدا عن بيع هذه المواد.
جريدة لوموند الباريسية الصادرة في 19 جوان 2019 نددت بمخاطر مبيد الحشرات «كلوربيريفوس» (Chlorpyrifos) الذي ثبت علميا أنه يسبب تأخرا في حاصل الذكاء لدى الأطفال الذين يكونون عرضة له عند تناولهم المواد الغذائية غير المصنعة التي تحتوي على هذا المبيد. و ذكرت لوموند أن تونس تأتي في المرتبة الثالثة بعد اللاوس وقبرص في قائمة البلدان المصدرة لأوروبا منتوجات فلاحية تحمل هذه المادة الممنوعة من قبل 8 بلدان أوروبية. ذلك يهدد أطفالنا وقدرتنا على تصدير منتوجاتنا نحو أوروبا. وأنا أتساءل أين منظمة الفلاحين. لماذا لا تتحرك وهي تعلم بخطورة «الكلوربيريفوس»؟ هل يمس ذلك بمصالح معينة؟ هذه المادة موجودة في 5 مبيدات مصرح بها من قبل وزارة الفلاحة التونسية في قائمة أكتوبر 2017 ولا تحرك ساكنا لمنع هذا السم المنتشر في المحيط و الحقول الزراعية.
إضافة إلى ذلك، الحكومة – وكذلك اتحاد الفلاحين – تسمح اليوم برش الحقول بالمواد الكيماوية عبر الطائرات الخاصة المجهزة لذلك. و نحن نعلم أن 25% فقط من هذه المواد تصل إلى الحقول، أما 75% منها فتنتشر خارجها وتصل إلى المناطق السكنية. وسيلة الرش هذه ممنوعة في جل البلدان المتقدمة وهي مسموح بها في تونس بالرغم من خطورتها و عدم جدواها. يوم 16 أفريل الماضي تحطمت طائرة من هذا النوع في سيدي بورويس بولاية سليانة دون أن نعلم أي مادة كانت ترش في العملية و هل تمكنت السلطات من استرجاعها أو أنها انتشرت في المحيط. هذا الوضع خطير جدا.
• هل تقصد أن هنالك لوبيات من هذا النوع في تونس كما هي موجودة في بروكسل للتأثير على قرارات المفوضية الأوروبية المتعلقة باستخدام المواد الكيميائية في الزراعة؟
هذا لا شك فيه. اللوبيات موجودة، هنالك أناس لا يؤمنون إلا بالمحصول المالي. صحة المواطن لا تدخل في اعتبارهم. لا بد أن نعي أن هذه المواد لا تضر بالفلاح فقط بل هي تضر الفلاح والمحيط وتكمن في الأرض وتضر النحل والحشرات النافعة، وهي تعتبر كائنا حيا أساسيا في قطاع الفلاحة أي بدونها ليس هنالك تلقيح، و كذلك المواطن الذي يشتري الثمار. أحيانا نشاهد في تونس مواد زراعية تحمل ألوانا غريبة بدون مراقبة. هذه المواد تنتهي في صحن المواطن ولها تأثير كبير على صحته. المواد التي يشار إليها بـ «سي – أم – آر» (CMR) تسبب السرطان على مستهلك المادة و أبنائه من بعده.
• هل تعتقد أن علاقاتنا الاقتصادية مع أوروبا، التي تصل إلى 80% من المبادلات، تسهل الدخول في عملية لمنع “الغليفوزات” في تونس؟
(ضحك الأستاذ من السؤال) أريد أن أقول أشياء أساسية. الآن يبدو أن شركة «مونصونتو» أخفت أخطار «الغليفوزات» منذ 18 سنة. كانوا على علم بهذه الأخطار على الجهاز العصبي وعلى العضلات والبروستات. ثانيا، لا بد أن نعرف ما يجري في أوروبا. منع هذه المادة مبرمج لعام 2021 للاستعمالات الأساسية إذا ما توفرت مواد بديلة. في نهاية 2022، تمنع كل الاستعمالات في فرنسا. النمسا قررت بداية هذا الشهر منعه بتاتا. في أوروبا هنالك مكيالين لآن عديد المواد التي تنتج في البلدان المصنعة ممنوع استعمالها في هذه البلدان مثل فرنسا وبلجيكا وسويسرا التي صنعت هذه المواد. لكنها تصدر بدون مشكل. يعني أن المادة التي تعطي السرطان للبلجيكي أو للسويسري عندما تصل للإفريقي أو لبلد آخر تعتبر مثل السكر. وهنالك من أنتج فكرا خاصا بذلك. بمقولة أن مستهلكي هذه المادة في العالم المتخلف لن يعيشوا حتى تظهر علامات سرطان البروستات. وفي كل الحالات هم سيموتون قبل ذلك ولا ينفع أن نعمل ضد تطور الفلاحة. وهو غلط جسيم عند من يعتقد أن استخدام المواد الكيميائية يزيد في المحصول النباتي. لكن المحصول النباتي لا يتطور إلا إذا تم استعمال الأسمدة. غالبا ما تحمي المبيدات من الحشرات والنباتات الطفيلية لكن لا تؤثر في المردود.
هنالك رأي سائد كذلك يقول إن الرفع في الناتج الزراعي ضروري لسد حاجيات البشرية التي تطور عددها. وذلك غير صحيح. هنالك عديد من الوسائل التي تقينا من استعمال المبيدات وتوفر لنا مردودا متزايدا.
• هل لدينا عادات أو تقاليد زراعية أو أساليب يمكن استعمالها بصورة بديلة عوضا عن المبيدات الخطيرة؟
هذه الطرق موجودة في كل مكان و في تونس بالخصوص. من ذلك أنه أصبح الحديث عندنا على «الزراعة البيولوجية» واردا، خاصة في الزيتون. في الماضي، كانت الزيوت التونسية ترفض عندما تصل إلى الحدود الإيطالية أو الفرنسية لأنه كانت فيها مادة «الديلدرين» (Dieldrine) الممنوعة في أوروبا – ولكنها مستعملة في تونس – وانتهى هذا الوضع اليوم. لكن الحديث عن «الزراعة البيولوجية» اليوم لا يكفي لأن الأراضي التي تستعمل في هذه الزراعة مشبعة برواسب المبيدات و المواد الكيماوية المحظورة. أنا سعيد باهتمام الفلاحين بهذا النوع من الزراعة لكن لا أسمعهم يناشدون بالحد من استعمال المبيدات. زد على ذلك أن هذه المواد تباع في تونس بالجملة و بالتفصيل في حين لا تباع بعض المواد في أوروبا إلا بعد تقديم بطاقة تعريف لأنها ضارة ووجب شراء مواد مانعة للسم في صورة حدوث حادث. اليوم لا يمكن الإفلات من التحاليل الكيماوية. مثلا، إذا أخذنا مسبحا أولمبيا ورمينا فيه قطعة صغيرة من السكر، التحاليل الكيماوية اليوم يمكن أن تعطيك نسبة السكر في الماء بعد التحليل. قرأت مؤخرا في جريدة لابراس التونسية أنه لا يزال المواطن يستعمل مادة «الدي دي تي» (DDT ) – التي ليس لها مضاد يحمينا من ضررها – والتي هي ممنوعة في البلدان المصنعة منذ 1978. المادة هذه موجودة في دم و شحوم كل المواطنين. هنالك مشكلة إضافية تتمثل في استخدام المواد الكيماوية التي نفذت مدة صلاحيتها وهي موجودة في المخازن أو في الطبيعة ولا أحد يهتم بذلك.
• سوف تدخل تونس في حملة انتخابية في نهاية السنة. هل تعتقد أن هنالك عرض سياسي حزبي يتبنى مشروع المحافظة على البيئة عموما أو أن الأنظار تتجه نحو غير ذلك من المسائل؟
أتمنى ذلك و أن تدخل هذه المسائل التي تتعلق بصحة التونسيين و بصحة الحيوانات لأن هذه المواد تباع و تستعمل بصفة عشوائية. يتحدث التونسيون كثيرا عن الفساد والتهرب من الضرائب ولا بد أن تأخذ الحكومة والأحزاب موقفا من هذه المسألة لأن هذه المواد المستعملة، وخاصة في هذا الموسم ضد الناموس، نجدها في الأخير في أجسامنا. أتمنى ونحن على أبواب حملات انتخابية أن تكون مسألة استعمال المبيدات والمواد الكيماوية الضارة بالصحة في مقدمة المسائل السياسية. ولكن أظن أن هذا ضرب من ضروب الحلم. يقول اليونانيون القدامى «ما تريد الآلهة مقاومته تجعلهم يصابون بالعمى». في تونس لا بد لنا أن نفتح أعيننا.