اولى هذه الحقائق وأكثرها جوهرية في نظري تقول ان «المواطن» هو قبل كل شيء كائن طبيعي وان هذا الكائن قدر له ان يعيش منذ عشرات الاف السنين على كوكب حي ونقي ورائع اسمه « الأرض» .
للأسف قلما تتداول اليوم في الأوساط الرسمية كلمات جميلة مثل»الإنسان» أو «الأرض» لأنها تعكس قيم الحياة والنقاء والوجود الإنساني الأرقى وأشياء أخرى كثيرة لم تعد وللأسف من أولويات السياسة العالمية لأنها ببساطة غير قابلة للتسويق في عالم شديد الاهتمام بالفاعلية العملية والنجاعة الاقتصادية .
في خضم هذه الفلسفة السائدة اصبح «الانسان» في المصطلحات الرسمية «موردا بشريا» او «مواطنا» وفي مواضع أخرى مجرد «رقم» وأصبحت الأرض من «موطن عظيم للاكتشاف» الى «ساحة كبيرة للاستغلال».
حدث هذا وللأسف في كل مكان حتى في بلادنا تونس التي نحبها كثيرا .
انتقلت الينا وللأسف ومنذ عشرات السنين عدوى «حرية الاستثمار» و«الصناعات الملوثة» و«الفلاحة المكثفة» التي تقوم على اغراق الأرض بالمواد الكيميائية وغيرها من مظاهر ما يصطلح عليه بـ«التنمية الحرة» .
ما حدث في مدينة قابس افضل مثال لانخراطنا الاعمى في تمش غير حكيم انتهى بتحويل الواحة البحرية الوحيدة في العالم ومحضنة اسماك البحر المتوسط الى مكان بشع غير صالح للعيش بعد تلوث البحر والارض والهواء في حين كانت هناك مجالات واسعة لتنمية مغايرة تحترم الخصوصيات الطبيعية للمكان .
ما حدث في مدينة قابس هو مثال مصغر للدمار الذي وقع على مستوى الكوكب برمته نتيجة تفضيل سياسة الربح المادي على الاستدامة .
واكثر من التلوث الذي مس اكلنا وشرابنا والهواء الذي نتنفسه أضحت تداعيات التغيرات المناخية واولها ملاحظة في بلادنا نقص الامطار امرا في متناول وعي المواطن البسيط وكان من نتائجها المباشرة في السنوات الأخيرة تراجع مخزونات سدودنا الكبرى الى مستويات مخيفة مما اضطر الدولة وربما في سابقة أولى من نوعها الى اتباع سياسة قطع الماء الارادي .
اتفاقية باريس التي أمضت عليها تونس تلزم كل دول العالم بالاستغناء الكلي عن وسائل الطاقة الكلاسيكية (نفط ,غاز طبيعي,غاز صخري) مع نهاية هذا القرن والا فان الطوفان الشامل سيكون مصير البشرية لا قدر الله.
سيادة رئيس الحكومة
اردت ان أقول من خلال هذه المقدمة الطويلة اننا في تونس نعيش (مثل بقية دول العالم ) في صلب مشكلة كبرى أضحت تهدد وجودنا على هذه الأرض أسبابها بيئية وترجع الى اتباع نمط انتاج غير مستدام يعتمد على «حرية الاستثمار» وان الوعي بهذه المعضلة الكبرى اصبح كونيا سواء على المستوى السياسي او المجتمع المدني .
في فرنسا مثلا لا ادري ان كنتم قد لاحظتم ان نجم الانتخابات الرئاسية الأخيرة كان «جون لوك ميلونشون» الذي جمع اكثر من سبعة ملايين صوت فرنسي في الدور الأول وكان قريبا جدا من ان يحدث مفاجاة مدوية ببرنامج يعتمد أساسا على الانتقال الايكولوجي والاجتماعي كحل مستقبلي امام التحدي الوجودي الكبير الذي تواجهه فرنسا مع بقية دول العالم .
وما احدثه «ميلونشون» ترك اثاره حيث لم يستطع الرئيس المنتخب «ماكرون» تجاهل المشكل الكبير حيث أعطيت لوزارة البيئة السابقة صلاحيات سيادية بان تغير اسمها لتصبح «وزارة الانتقال الايكولوجي المتضامن» وعين على راسها ايكولوجي شهير «نيكولا هيلو» بدا فعلا في إقرار اجراءات جريئة مثل منع منح رخص استكشاف الطاقات التقليدية على التراب الفرنسي (اقرت الحكومة الفرنسية أخيرا مبلغ سبعة مليارات أورو لتطوير الطاقات المتجددة )او بداية منع مواد كيميائية خطيرة تستعمل في الفلاحة
سيادة رئيس الحكومة
ان أسلوب التنمية القديم الذي يعتمد على انتظار المستثمر الخارجي الذي لا يفكر عادة الا في الربح المادي لا غير اثبت ضرره الفادح على الأرض والانسان (تداعيات خطيرة اجتماعية واقتصادية و صحية وبيئية ) وهناك اليوم وعي متزايد بان الحلول المستقبلية للعيش الكريم لن تكون إلا محلية ومستدامة ومتضامنة
هذه الحقيقة أصبحت اليوم كونية ولكن لا يبدو ان التونسيين سواء كانوا في السلطة أو مواطنين عاديين لهم الوعي الكافي بذلك :وإلا لماذا تأخرت النصوص القانونية التي تنضم قطاع الطاقات المتجددة التي من المفروض ان تمنح للخواص (حتى مجرد مواطنين ) فرصا لإنتاج الطاقات البديلة وبدلا من ذلك فقد وقع التلويح بان هناك نية لدراسة إمكانية استكشاف الغاز الصخري .
وعندما استمع الى المسؤول الأول عن الفلاحة في تونس فان مشاكل استدامة الأراضي الفلاحية وجودة ونقاء ما يأكله التونسيون وتصور نموذج الضيعة الفلاحية العائلية البيولوجية المفتوحة على نوع بديل من السياحة تبدو ابعد ما يكون عن اهتماماته وبدلا من ذلك فان الأولوية المطلقة تبدو معطاة الى كمية الإنتاج بدلا من جودته .
وحتى هيئة التنمية المستدامة التي اقرت في الدستور فهي لم تر الى اليوم النور.
وابعد من هذا لا يبدو ان للدولة رؤية وبرنامجا واضحا خاصا بالتنمية المحلية والمتضامنة.
سيادة رئيس الحكومة
لأجل كل ما تقدم فانا اقترح عليكم انشاء مركز وطني يعنى بالتنمية المستدامة التي هي بالأساس تنمية محلية ومتضامنة ووفق الخصوصيات الطبيعية والثقافية لكل منطقة فالتنمية الخاصة بولاية تطاوين ستكون حتما مختلفة عن التنمية في ولاية نابل وحتى في صلب نفس الولاية فان شكل النشاط البشري سيختلف من معتمدية الى أخرى فخصوصيات معتمدية تاكلسة من ولاية نابل مثلا تتلاءم مع فلاحة وسياحة ايكولوجية بخلاف معتمدية نابل نفسها المعروفة بتنوع حرفها والتي من المفروض ان تكون قطبا للحرف والابتكار في مجال الصناعات اليدوية .
ان هذا المركز التي أنادي بانشائه سيكون له دور مزدوج ثقافي وعلمي تطبيقي اذ انه لن يكتفي بنشر ثقافة التنمية المستدامة عبر استضافة المحاضرات او التعريف بالانتاجات الثقافية (كتب , اشرطة وثائقية , …,) ذات العلاقة وانما تطبيقيا عبر تصور أنماط تنمية مستدامة خصوصية لكل معتمدية والاشراف على تطبيق هذه الأنماط في مناطق «نموذجية» تختار بعناية من الشمال الى الوسط الى الجنوب وذلك بالتنسيق مع السلط المحلية ومع مراكز البحث العلمي ذات العلاقة (الفلاحة البيولوجية مثلا ).
ان الوقائع والحقائق تثبت كل يوم ان مستقبل العيش الكريم لن يكون في المستقبل القريب والمتوسط الا محليا ومتضامنا والدول الذكية هي الدول التي تحسن قراءة الواقع قراءة جيدة والانخراط في المسارات الجديدة بكل شجاعة .
ولاننا نريد لهذا الوطن ان يكون واحة سلام يطيب فيها العيش للجميع فان املنا فيكم وطيد لكي تولوا المسالة ما تستحق من اهتمامكم …