تحتفل بتسعينية التأسيس: "الرشيدية" مرجع الموسيقى التونسية

تسعون عاما مرّت على ولادة الرشيدية هذا الصرح

الذي لم يكن مجرّد جمعية موسيقية، بل كان مشروعا وطنيا حمل ملامح الهوية التونسية وصوتها وروحها. تسعون عاما من البحث، من التوثيق، من التلحين، من الغناء، ومن مقاومة الرداءة... واليوم تستقبل الرشيدية عيدها التسعين بوقار الشيخ الحكيم حافظ الأسرار، وبهيبة المعلّم العارف بمفاتيح الموسيقى.

في تاريخ 3 نوفمبر 1934 تأسّست الرشيدية ،وكانت ثمرة مبادرة قادتها نخبة من السياسيّين والمثقّفين والكتّاب والفنّانين تحت إشراف مصطفى صفر، شيخ مدينة تونس آنذاك. وهي مؤسّسة ثقافيّة وفنيّة تهدف للحفاظ على الموسيقى التونسية والترويج لها.
درصاف الحمداني ومحمد بن صالح يحييان الحفل الختامي
في نهج الدريبة بالقصبة في تونس العاصمة، حيث ينام التاريخ في حضن المدينة العتيقة، تُطلّ الرشيدية بواجهتها الهادئة التي تخفي خلف أبوابها الخشبية عالما نابضا بالنغم. هنا، تعلو "نوبة المالوف" من قاعاتها العريقة، وكأن الجدران لا تزال تحفظ الأصوات التي مرّت بها. ما بين أنامل تداعب العود، وأنفاس تتماوج مع وصلة في طبع الصيكة، وحناجر تُعيد إحياء أغانٍ عمرها قرون، تتواصل التدريبات في مقر الرشيدية استعدادا للحفل الختامي احتفاء بالتسعينية يوم 7 ديسمبر في المسرح البلدي بتوقيع درصاف الحمداني ومحمد بن صالح بقيادة المايسترو نبيل زميط في أمسية تحتفي بالزمن الجميل. تسعون سنة من الفنّ والتكوين وإحياء روح الموسيقى التونسية، تحتفل بها الرشيدية بين 27 نوفمبر و7 ديسمبر المقبل في تأكيد على دورها في صون التراث الموسيقي وتدوينه وتطويره.
وبالرجوع إلى الموسوعة التونسية فقد تداول على الإدارة الفنّية وقيادة فرقة الرشيديّة خميّس ترنان ومحمد التريكي وصالح المهدي وعبد الحميد بلعلجيّة ومحمد سعادة وقدّور الصرارفي ومحمد علي وحيد.... وفي رحاب الرشيديّة تألق نجم عدّة شعراء ومطربين ومطربات منهم: شيخ الأدباء العربي الكبادي وجلال الدّين النقاش ومحمد السعيد الخلصي والهادي العبيدي ومحمد المرزوقي والمنوبي السنوسي وأحمد خير الدين ومحمود بورقيبة وجعفر ماجد وبلحسن بن شعبان ونور الدين صمّود وشافية رشدي وصالح المهدي وأحمد الوافي وصليحة والصادق ثريّا والهادي الجويني والهادي القلاّل والشاذلي أنور والهادي المقراني ورضا القلعي والطاهر غرسة وعلي السريتي وفتحي زغندة...
مكتبة الخلدونية شاهدة على ظروف التأسيس

في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت تونس تعيش مخاضا ثقافيا صعبا طغت عليه موسيقى شعبية بلا تدوين، وتراث مهدّد بالاندثار، وتأثيرات شرقية وغربية تقود الذائقة نحو الاغتراب. في ذلك السياق ظهرت الرشيدية سنة 1934 لتدافع عن هوية موسيقية تونسية لها إيقاعها، ولها صوتها، ولها طريقتها الخاصة في الغناء. في شهر نوفمبر 1934 عقدت جلسة عامة بمكتبة الخلدونية موضوعها المحافظة على الموسيقى التونسية الأصيلة وترويجها بين الأجيال الصاعدة وكان ذلك نتيجة الشعور بالخطر المحدق بالشخصية التونسية وأصالتها العربية الإسلامية و تضاعف عدد الاسطوانات الشرقية التي اكتظت بها المقاهي إضافة إلى إقحام ألفاظ فرنسية في الأغاني التونسية.
يفوق عدد المؤسسين للرشيدية السبعين شخصا وهم يتوزعون كالتالي: خمسة وعشرون فنانا وفنانة وثلاثة عشر أديبا و31 شخصا من وظائف مختلفة.أما مجلس الإدارة فكان مؤلفا من المثقفين الوجهاء، كما تم إحداث لجنة فنية ولجنة أدبية وقد عهدت للجنة للأولى مهمة جمع التراث ومراجعة الألحان الجديدة في حين عهدت للجنة الأدبية (تتألف من الأدباء والكتاب والشعراء) مهمة النظر في محتوى الأغاني.
وقد تم اختيار اسم الرشيدية نسبة إلى محمد الرشيد باي ثالث ملوك العائلة الحسينية الذي اعتنى بالموسيقى والغناء الذين أتى بهما اللاجئون الأندلسيون العرب وعمل على تطعيم الموسيقى التونسية بالموسيقى التركية من ناحية المقام والإيقاع. وقد بعث مدرسة للموسيقى بالقصر ثم استمر عليها البايات الذين تداولوا على الحكم بعده.
الرشيدية بين أمجاد الماضي وهواجس المستقبل
بعثت فرقة الرشيدية للمحافظة على الموسيقى العربية الأصيلة ولإحياء التراث التونسي وتطعيمه بالجديد. واليوم، والرشيدية تقف على عتبة التسعين، تجد نفسها أمام مفترق طرق في عصر تتسارع فيه الأنغام، تتبدّل فيه الأذواق، وتتحوّل فيه الموسيقى إلى منتج رقمي سريع الزوال. ولعلّ من التحديات الكبرى أمام الرشيدية: تجديد العرض الفني أمام جيل لا يهتم إجمالا بالمالوف، وتطوير المناهج وتحديث التكوين ليواكب العلوم الموسيقية الحديثة، وضمان الاستدامة المالية للمؤسسة، والحضور الفعّال على المنصات الرقمية...
إنّ الاحتفال بالذكرى التسعين لتأسيس الرشيدية بما فيه من تثمين لتاريخ مجيد، يمثل فرصة لإعادة طرح الأسئلة الراهنة، على غرار: كيف يمكن تحويل التراث إلى مشروع مستقبلي لا فقط مادة أرشيفية؟ كيف تستعيد الرشيدية دورها الريادي في التكوين والإبداع و تشكيل الذائقة الموسيقية في تونس؟

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115