إلى طاولة الحوار بشأن ليبيا عبر اجتماع "برلين 3"، في محاولة جديدة لكسر حالة الجمود السياسي التي تطوّق البلاد، وتهدد وحدتها واستقرارها. ويبعث الاجتماع، الذي انعقد في العاصمة الألمانية بمشاركة 23 دولة ومنظمة إقليمية ودولية، بإشارة واضحة هي أنّ الأزمة الليبية ما زالت على رادار اللاعبين الدوليين، لكن طريق الحل لا يزال معقدا ومتعدد الأطراف ومفتوحا على كل الاحتمالات.
ووفق مراقبين فإن المفارقة أن اجتماع "برلين 3" جاء بمسار شبيه باجتماعات سابقة، لكنه انعقد في واقع سياسي واجتماعي وأمني أكثر هشاشة. فمنذ آخر اجتماع عام للجنة المتابعة الدولية في أكتوبر 2021، تفاقم الانقسام المؤسساتي بين حكومتين متنافستين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، وحكومة موازية في الشرق، دون أي تقدم ملموس في مسار الانتخابات التي وُعد بها الليبيون مرارا.
وعبّر البيان الختامي لاجتماع برلين بوضوح عن "الاستياء من الجمود السياسي"، معتبرا إياه تهديدا متزايدا للوحدة الوطنية، في وقت يتدهور فيه الوضع المالي والاقتصادي بوتيرة مقلقة، وتتصاعد الاشتباكات بين الفصائل المسلحة، خاصة في العاصمة طرابلس.
خارطة جديدة... أم مناورة ؟
ويرى محللون أن ما يميز هذا الاجتماع أنه لم يكتف بالتشخيص، بل ذهب خطوة نحو طرح حلول مؤسسية جديدة، تقودها اللجنة الاستشارية المؤلفة من 20 عضوا، بالتعاون مع الأمم المتحدة. ووفق مصادر دبلوماسية ليبية وتقارير إعلامية ، فإن أربعة مقترحات نوقشت خلال اللقاء، تصبّ جميعها في اتجاه تشكيل مجلس تأسيسي من 60 شخصية ليبية، يمثل مختلف الأطياف برلمان، مجلس دولة، مجتمع مدني، ولجنة استشارية.
وسيكون هذا المجلس، حسب التصور الأممي، مسؤولا عن إدارة حوار سياسي داخلي يُفضي إلى تشكيل حكومة تنفيذية مصغرة، محدودة المهام، تتولى تهيئة البلاد لإجراء انتخابات عامة تُنهي الانقسام المؤسساتي.لكن نجاح هذا التصور وفق خبراء ، مرتبط بعدة عوامل أبرزها مدى تجاوب الأطراف الليبية المتصارعة مع فكرة تقليص نفوذها لصالح سلطة مؤقتة ، ومقدار الضغط الدولي الحقيقي لدفع الجميع نحو حل وسط.
توافق دولي هشّ
ورغم الإجماع الدولي المعلن في "برلين 3" على دعم عملية سياسية "بقيادة وملكية ليبية"، يظل الواقع مخالفا ، فالتوافق الخارجي هشّ، محكوم بحسابات النفوذ ومصالح الدول المتدخلة، من أوروبا وروسيا وتركيا، وحتى الدول العربية الفاعلة.أما داخليا فلا تزال الإرادة الوطنية الموحّدة غائبة، وتنظر أطراف النزاع بعين الشك إلى أي محاولة دولية لإعادة هندسة السلطة، خاصة إذا جاءت على حساب مكاسب سياسية أو عسكرية اكتسبتها على الأرض.
ودخلت رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حنا تيتة، على خط الأزمة بمحاولة مختلفة عبر تقديم مبادرة لإجراء استفتاء رأي شعبي افتراضي على نموذج يضم أربعة خيارات لحل الأزمة السياسية. ورغم رمزية المبادرة، فإنها كشفت مدى تعقيد المزاج الشعبي الليبي، إذ لم يظهر حتى الآن توافق واسع على أي خيار.وتسعى البعثة إلى إحداث توافق دولي حول المخرجات قبل عرضها على مجلس الأمن الأسبوع المقبل، ما يعني أن ما جرى في برلين ليس إلا مرحلة تمهيدية قبل التفاوض الحقيقي في نيويورك.
اختبار النوايا
وتعج الفترة السابقة بالمحاولات التي انتهت إلى طريق مسدود، لا بسبب ضعف المقترحات، بل بسبب غياب الالتزام السياسي، وتداخل الأجندات. وحتى اللحظة، يرى محللون أنه لا يوجد ما يضمن أن "برلين 3" لن يُلحق بسابقيه في فشل تطبيق توصياته.
لكن في المقابل، فإن تنامي التهديدات الأمنية والاقتصادية، وتآكل الشرعية السياسية، قد يدفع الفرقاء إلى إعادة فتح الباب أمام المشاركة السياسية.
ويرى خبراء أنّ"برلين 3" ليس خارطة الخلاص، لكنه قد يكون الفرصة الأخيرة قبل الدخول في مرحلة أكثر فوضوية. وما لم يتحوّل الإجماع الدولي إلى أدوات ضغط فاعلة، وما لم تنبثق إرادة سياسية حقيقية داخلية، فإن ليبيا ستظل تراوح مكانها، رهينة توازن هشّ بين السلاح والانقسام وأمل معلّق في صندوق انتخابي لم يُفتح بعد.