نحو الاندماج في السوق الأوروبية للكهرباء عبر مشروع الربط البحري مع إيطاليا، ELMED، الذي يمتد تحت المتوسط بقدرة 600 ميغاواط، حيث أعلنت الشركة التونسية للكهرباء والغاز خلال جلسة استماع عقدتها لجنة المالية والميزانية بمجلس نواب الشعب، مؤخرا أنه خلال شهر جويلية، الجاري سيتم الانتهاء من أشغال مدّ الخط البحري ضمن مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا وذلك ، في خطوة من مسار إستراتيجي نحو ربط تونس بالشبكة الأوروبية.
يطرح هذا المشروع الضخم الذي يبدو من الخارج إنجازًا تقنيًا واعدًا، بكل ما يمثّله من فرصة تاريخية لتحرير المنظومة الكهربائية التونسية من قيود العجز والضغط الموسمي أسئلة حقيقية وعميقة بخصوص كيفية تسويق الفائض الطاقي المنتظر، ومدى جاهزية تونس تقنيًا ومؤسساتيًا للاستفادة من هذا الإنجاز الكبير وهل تم إعداد إستراتيجية وطنية مدروسة لتسويق هذا الفائض؟ وهل تتحوّل هذه البنية التحتية إلى رافعة اقتصادية أم مجرّد ممر كهربائي .
الربط تحقق… فهل يتحقق الربح؟
خلال جلسة استماع عقدتها لجنة المالية والميزانية بمجلس نواب الشعب يوم 30 جوان 2025، قدم الرئيس المدير العام للشركة التونسية للكهرباء والغاز فيصل طريفة والوفد المرافق له عرضًا مفصّلًا حول تقدّم تنفيذ مشروع ELMED ، مشيرًا إلى أن الأشغال تسير بنسق جيد رغم وجود بعض العراقيل العقارية والتقنية وستنتهي أشغال مدّ الخط البحري في شهر جويلية الجاري، كما تم الانتهاء من فتح العروض التقنية المتعلقة بتنفيذ المشروع، في انتظار موافقة البنك الدولي لفتح العروض المالية قبل نهاية شهر سبتمبر 2025،
لئن وضعت تونس (كابلها) البحري في عمق المتوسط، فإنها اليوم مطالبة بوضع رؤية واضحة في عمق استراتيجيتها الطاقية فالمراهنة على الربط مع أوروبا لا تكتمل بإنجاز تقني، بل تتطلب حسن استثمار، ودقة وتسويق، وحوكمة رشيدة تضمن أن تكون الكهرباء المصدّرة رافعة تنموية لا عبئًا تمويليًا جديدًا .
إشكاليات وانتقادات
رغم ان مشروع «ELMED Interconnect»من الناحية الإستراتيجية، يوفّر إمكانية تبادل الطاقة في الاتجاهين بقدرة تبلغ 600 ميغاواط، بما يعزز من استقرار الشبكة الوطنية خاصة في فترات الذروة الصيفية، ويسمح بإدماج تونس تدريجيًا في السوق الأورو-إفريقية للكهرباء فقد رافقت هذا المشروع منذ انطلاقه بعض الإشكاليات وواجهته بعض الانتقادات التي أثارت جدلا واسعا في صفوف الخبراء والمختصين، وبيّنتها الشركة التي أكدت خلال جلسة الاستماع أن المشروع يمر حالياً بعدد من التحديات، أبرزها نقص الخبرات الفنية المحلية، و الكفاءات الوطنية المختصة في إدارة مشاريع الربط الكهربائي تحت البحر،مما اضطر الدولة إلى اللجوء الى مكاتب دراسات أجنبية، وهو ما تسبب في إبطاء نسبي في نسق الإنجاز ورفع التكاليف، إلى جانب الإشكاليات العقارية في المنطقة التي تتطلب تنسيقًا أكثر نجاعة مع وزارة أملاك الدولة .
في الواقع فان هذا المشروع على أهميته وتعقيده يشكّل جزءًا من خطة إقليمية أوسع للاتحاد الأوروبي تهدف إلى ربط شبكاته الكهربائية بدول جنوب المتوسط لتعزيز وارداته من الطاقة المتجددة، وهو ما يمنح تونس فرصة لتسويق الفائض الطاقي مستقبلاً، خاصّة من مصادر طاقة الشمس والرياح التي تتوفر في البلاد بإمكانيات هائلة، و هنا تطرح الأسئلة الأهم فهل تمتلك تونس حاليًا الآليات التقنية والمؤسساتية لتصدير الكهرباء بشكل منتظم؟ وهل تم إعداد إستراتيجية طاقية واضحة لتوجيه الفائض المنتظر نحو السوق الأوروبية؟ وهل سيحقّق هذا الربط وحده مكاسب إذا لم تُصاحبه إستراتيجية فاعلة، ودبلوماسية طاقية نشطة، وسياسات تحفيزية للاستثمار في الطاقات النظيفة؟
بين الإمكانيات والطموحات
رغم أهمية المشروع تقنيًا وماليًا، إلا أن تسويق الفائض الطاقي المنتظر يبقى تحديًا جوهريًا أمام الدولة فالربط لا يعني تلقائيًا أن الكهرباء ستُباع في السوق الأوروبية، إذ يتطلب الأمر مطابقة للمعايير الفنية الأوروبية، وتوقيع اتفاقيات شراء طاقة طويلة المدى مع أطراف أوروبية وامتلاك قدرة تنافسية على مستوى الكلفة مقارنة بمصادر أخرى في السوق، والأهم وجود فائض حقيقي في الإنتاج، ناتج عن مشاريع وطنية كبرى في الطاقة المتجددة، وفي غياب رؤية واضحة لتطوير هذا الفائض، قد يتحول المشروع إلى مسلك عبور فقط دون استفادة مباشرة للاقتصاد الوطني، خاصة إذا واصل إنتاج الكهرباء في تونس الاعتماد على الغاز المستورد، بما يرفع تكلفة الكيلواط ويقلص القدرة التنافسية للتصدير.
مقارنة مع التجارب المتوسطية
يمكن لتونس في واقع الأمر أن تستلهم من تجارب مجاورة نجحت في تحويل مشاريع الربط الكهربائي إلى أدوات فعالة للتنمية والسيادة الطاقية مثل المغرب وإسبانيا اللتان تتبادلان الكهرباء منذ أكثر من 20 سنة عبر كابل بحري يربط بينهما ، مع تخطيط لرفع القدرة إلى 3000 ميغاواط، وهو ما ساعد المغرب على تسويق جزء من طاقته الريحية، وربط المستثمرين الأوروبيين بمشاريعه.كذلك إيطاليا وفرنسا و خط «Piedmont–Savoy» الذي ساعد في خلق شبكة توزيع مرنة بين البلدين، وخفّض من تقلبات الأسعار، مع توسيع الاستثمارات في الطاقة المتجددة من الجهتين.
مقارنة بهذه التجارب، تبدو تونس في مرحلة أولى، تتطلب التدرج، وبناء الثقة مع الشركاء الأوروبيين، مع تطوير مشاريع وطنية ضخمة في الطاقة النظيفة، حتى تتحول من مجرد نقطة عبور إلى مركز توزيع طاقي متوسطي.
في مواجهة شبكات أوروبية معقدة وسوق مشبعة بالمعايير والمنافسة، لا يكفي أن تمر الكهرباء فحسب بل يجب أن تصل بقيمة، وبشروط، وبمكاسب وطنية ملموسة فالمشاريع العابرة للحدود، وخاصة تلك المتصلة بالطاقة، تبرز كوسائل إستراتيجية لإعادة بناء مراكز النفوذ والتموقع الجغرا–اقتصادي. في ظلّ التحولات العميقة التي يعرفها المشهد الطاقي العالمي، وفي خضم ما تشهده منظومات الإنتاج والتوزيع من اضطرابات غير مسبوقة بسبب التغير المناخي وتداعيات الحروب، ياتي مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا، أو ما يُعرف تقنيًا بمشروع «ELMED Interconnector»، والذي يُعوَّل عليه ليربط الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط عبر كابل كهربائي تحت البحر بطول يقارب 200 كلم وقدرة تبادل تصل إلى 600 ميغاواط.
رؤية مستقبلية متكاملة
رغم ما يعكسه مشروع الربط الكهربائي مع إيطاليا، من نضج تقني وانفتاح دولي، فإنه لا يكفي بذاته لتأمين موقع دائم ومستدام لتونس في السوق الطاقية الإقليمية وبناء عليه فان المطلوب اليوم هو إطلاق إصلاحات هيكلية في منظومة الحوكمة الطاقية وتسريع إنجاز المشاريع الكبرى للطاقات المتجددة بالإضافة إلى صياغة خطة وطنية لتصدير الكهرباء مدعومة باتفاقيات ثنائية والقيام بجهد دبلوماسي طاقي يضمن لتونس مكانًا محترمًا ضمن شبكات الربط الأوروبية–المغاربية.
بين الأهمية القصوى لهذا المشروع، وطموحات تصدير الكهرباء نحو الضفة الشمالية للمتوسط، تبقى إشكالية تسويق الفائض هي بيت القصيد فالربط بدون إنتاج مستدام، وبدون رؤية تصديرية واضحة، قد يُحكم على المشروع بأن يُختزل في بعده التقني والرمزي، دون أن يغيّر جوهر معادلة السيادة الطاقية في تونس .فهل تستفيق النخبة السياسية والاقتصادية وتحوّل هذا الربط إلى فرصة وطنية حقيقية؟ أم سيظل المشروع قصة نجاح غير مكتملة، كما حدث مع عديد المشاريع الإستراتيجية الأخرى؟