إضاءة التلوث الكيميائي: أزمة عالمية قادمة

تعمل مؤسسات المجتمع المدني على الدفع نحو تنفيذ القرارات الحكومية بشأن تفكيك وحدات المجمع الكيميائي

الذي ينشط في المنطقة منذ أربعة عقود من أجل وقف نزيف الخسائر البيئية. وتستعصي أزمة التلوث في قابس عن الحل رغم إعلان السلطة تفكيك أكبر مجمع كيميائي في البلاد قبل سبع سنوات ونقله من المنطقة التي تعيش مستوى تلوث قياسي تسبب في ضرر كبير للحياة البرية والبحرية فضلا عن تواتر حوادث اختناق المواطنين. وقادت حركة "ستوب بوليوشن" (أوقف التلوّث)، على امتداد الاشهر الماضية، مسيرات احتجاجية طالبت فيها بالسلام البيئي بعدما دمرت مخلفات الفسفوجيبس، التي يفرزها المجمع الكيميائي، الحياة البرية والبحرية في المنطقة. وتطالب المنظمات المدنية بتوضيحات بشأن تأخر قرار تفكيك المجمع بعد سبع سنوات من اتخاذ القرار بشأنه وتقديم إجابات للمجتمع المدني وأهالي المدينة الذين يعانون من مستويات تلوث عالية.

وقد أعلنت السلطات، منذ عام 2017، التزامها التام بوقف سكب مادة الفسفوجيبس في البحر، إضافة إلى العمل على تفكيك الوحدات الملوثة واستبدالها بأخرى تحترم المعايير الدولية في السلامة البيئية، ليتم تحويلها من المكان الحالي إلى مكان آخر يتم الاتفاق عليه لاحقا
ويشكّل المجمع الكيميائي في قابس مصدر تلوث بيئي كبير في المنطقة، حيث قاد المجتمع المدني في المنطقة لسنوات طويلة حراكا للمطالبة بنقل المصانع خارج المنطقة بعدما تسببت الغازات المنبعثة منه في أضرار جسيمة للحياة البرية والبحرية في المنطقة فضلا عن تصاعد نسب الإصابة بالأمراض السرطانية في صفوف السكان ".
ويقع المُجمّع الكيميائي في منطقة "شط السلام" التّي يقطنها نحو 18 ألف نسمة، وتبعد قرابة أربعة كيلومترات عن مدينة قابس، وتم إنشاء المُجمّع عام 1972 وبداخله وحدات لتصفية مادة الفوسفات وصناعات كيميائية مختلفة إلى جانب أكبر مخازن الغاز الطبيعي. ويوفر موقع المركب الكيمياوي في قابس اليوم نحو 57% من الإنتاج الوطني لحمض الفسفور الذي يستخدم في الصناعات المعدنية وتلك الخاصة بمواد التنظيف والأسمدة وإنتاج المياه الغازية.
".

فالمواد الكيميائية موجودة في كل مكان - فهي تحافظ على دقات عقارب ساعاتنا، وعلى تشغيل محركات سياراتنا. كما أنها موجودة في الأدوية التي نشتريها، والأغذية التي نأكلها، والملابس التي نرتديها.
وبطريقة أو بأخرى، تعتبر المواد الكيميائية مظاهر ملموسة لما أحرزه الإنسان من تقدم وتنمية بشرية وابتكار علمي وتكنولوجي وزراعي. فاستخدام النيتروجين في الأسمدة يتيح للمزارعين زراعة كميات أكبر من المحاصيل الغذائية. ومع انتشار الملوثات الكيميائية في جوانب متعددة من حياتنا اليومية، فقد وصلنا إلى نقطة يتم فيها اختبار الحدود التي يمكن لكوكبنا تحملها، حيث يتسبب الإفراط في استخدام بعض المواد الكيميائية في ضرر يتجاوز نفعها بكثير. وعندما يساء إدارة المواد الكيميائية السامة، فإنها تتسبب في عدد مثير للقلق من الوفيات المبكرة، وتلحق أضرارًا جسيمة بصحة الإنسان والكوكب على حد سواء . ويؤدي التعرض للمواد الكيميائية السامة إلى إعاقة متوسط العمر المتوقع، كما يؤثر على رفاهية الإنسان. ويشكل التلوث، إلى جانب تغير المناخ وفقدان الطبيعة، عقبةً رئيسية أمام إنهاء الفقر على كوكب صالح للعيش فيه.
"ويشكل التلوث، إلى جانب تغير المناخ وفقدان الطبيعة، عقبةً رئيسية أمام إنهاء الفقر على كوكب صالح للعيش فيه."
تشير الأبحاث الجديدة إلى جسامة المخاطر التي يشكلها التلوث الكيميائي. وتشير هذه الشواهد والأدلة إلى أن التعرض للرصاص تسبب في الوفاة المبكرة لأكثر من 5.5 ملايين شخص في عام 2019؛ توفي 90% منهم في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل . ووجدت الأبحاث أيضًا أن الأطفال دون سن الخامسة انخفض معدل ذكائهم بنحو 765 مليون نقطة بسبب التسمم بالرصاص في نفس العام. ولهذه الخسارة في رأس المال البشري عواقب وخيمة على نوعية الحياة، ونواتج التعلم والدراسة، والإنتاجية، وفي نهاية المطاف، على التنمية الاقتصادية والنمو. وتشير التقديرات إلى أن التكلفة الاقتصادية للأضرار الصحية بلغت 6 تريليونات دولار في عام 2019، أي ما يعادل 6.9% من إجمالي الناتج المحلي العالمي .
"تشير التقديرات إلى أن التكلفة الاقتصادية للأضرار الصحية بلغت 6 تريليونات دولار في عام 2019، أي ما يعادل 6.9% من إجمالي الناتج المحلي العالمي"
وتعتبر الأسمدة النيتروجينية، والتي غالبًا ما تستخدم لإثراء المغذيات في التربة الزراعية، مثالاً آخر على المواد الكيميائية التي لها تأثير ضار على الناس والكوكب على حد سواء. وتمتص المحاصيل فعليًا 40% فقط من النيتروجين، بينما تنتقل النسبة المتبقية ومقدارها 60% إلى الهواء أو تتم إذابتها وتسريبها إلى الماء. وهذا بدوره يمكن أن يخلق مناطق ميتة كبيرة في المسطحات المائية، ومن ثم القضاء على الحياة البرية. بالإضافة إلى ذلك، وعندما تتطاير الأسمدة النيتروجينية مثل الأمونيا في الهواء، فإنها يمكن أن تتحول إلى جزيئات دقيقة ثانوية وأكاسيد النيتروجين المسؤولة بشكل جزئي عن ملايين الوفيات المبكرة الناجمة عن تلوث الهواء. علاوة على ذلك، يتحول جانب من النيتروجين المتطاير في الهواء إلى أكسيد النيتروجين، وهو من الغازات المسببة للاحتباس الحراري ويُعد أقوى 300 مرة من ثاني أكسيد الكربون. ويرتبط التلوث بالمواد الكيميائية بأزمة المناخ، حيث يمكن أن يؤدي تغير المناخ بدوره إلى زيادة كمية المواد الكيميائية غير الآمنة في البيئة .
وتعتبر المواد الكيميائية الأخرى الموجود في حياتنا اليومية مثيرة للقلق بنفس القدر. فالكادميوم، وهو مادة كيميائية تدخل في تركيب البطاريات والإلكترونيات والطلاء - وكذلك في بعض الأغذية - يؤثر على صحة القلب والأوعية الدموية ويمكن أن يسبب الفشل الكلوي والسرطان. والأسبستوس، المعروف بالتسبب في سرطان الرئة والمحظور في معظم البلدان مرتفعة الدخل، لا يزال يستخدم بشكل شائع كمادة عازلة في بعض البلدان مثل الهند وسري لانكا وإندونيسيا.
تشير الآثار الناجمة عن التلوث الكيميائي إلى دق جرس إنذار آخر، يذكرنا بأنه لا يمكننا ببساطة أن نتطور الآن ثم نعود لإصلاح ما أتلفناه لاحقًا . وفيما يلي ثلاثة إجراءات يمكن لواضعي السياسات اتخاذها لتحسين إدارة المواد الكيميائية:
1. قياس المواد الكيميائية التي تحتاج إلى إدارتها. ولا يوجد حاليًا نهج موحد لقياس التلوث الكيميائي. وقد اقترح البنك الدولي مبادئ توجيهية فيما يخص جمع العينات من الكيماويات الموجودة في البيئة أو من المنتجات المحلية وتحليلها، وإعادة تدوير بطاريات الرصاص الحمضية المستعملة، وأيضًا تعدين الذهب بالوسائل الحرفية. ويتعين على الحكومات والأوساط الأكاديمية وشركاء التنمية أن يتفقوا على بروتوكولات عالمية لقياس المواد الكيميائية الموجودة في البيئة وتلك التي يتناولها الناس.
2. اعتماد "المبدأ الاحترازي" حيث يُفترض أن يتم إثبات سلامة المادة الكيميائية قبل استخدامها. ويتطلب هذا النهج من واضعي السياسات أن يتحلوا بالحيطة الكافية تجاه استخدام المواد الكيميائية الجديدة.
3. وضع أطر سياسات استنادًا للشواهد والأدلة. ويمكن أن يأتي هذا الإجراء على هيئة معايير صارمة للبيئة والسلامة، بحيث يجبر المتسببين في التلوث على دفع الثمن المناسب، وإلغاء الدعم الضار بالبيئة، الذي تنفق عليه الحكومات حاليًا تريليونات الدولارات سنويًا.
من جانبنا، يلتزم البنك الدولي بالشراكة مع البلدان المتعاملة معه لضمان حماية العمال والمجتمعات المحلية المعرضة للخطر من مخاطر التلوث الكيميائي. ففي العراق، يساعد البنك الدولي في إدارة التلوث الناجم عن المواد الكيميائية الخطرة في المواقع الملوثة الناجمة عن الصراع عن طريق إزالة الملوثات العضوية الثابتة، بما في ذلك مركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور. وفي غانا، يعمل البنك مع الحكومة لتشجيع ممارسات الزراعة المستدامة والتعدين محدود النطاق بهدف تحسين صحة السكان وسلامة بيئتهم.
ومن أجل كوكب صالح للعيش فيه حقًا، كوكب يدعم صحة الناس وسلامة البيئة التي يعتمدون عليها، يجب أن نتحرك بشكل أسرع وأكثر حسمًا بشأن أزمة التلوث.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115