ويمضي في رحلة الإبداع بلا حدود… وإلى ما وراء الحدود! إن الرسم عنده هو حاجة يومية عارمة واحتياج وجودي صاخب لا يهدأ ! ولأنّه يعتبر "الإبداع هو الحياة والحياة هي الإبداع"، فإنه لم يعر أي اهتمام لإصابته منذ الصغر بمرض "عمى الألوان"، واختار أن يسلك درب المغامرة والتحدي ليصبح واحدا من أهم الرسامين التونسيين محليا وعالميا.
تم عرض أعمال رشيد العلاقي في مختلف أنحاء العالم ، كما تزين لوحاته جدران معهد العالم العربي بباريس وسفارة تونس في برلين وباريس وسفارة ألمانيا في تونس...
الإنسان موضوع أساسي في لوحاته
في عام 1940 ولد رشيد العلاقي في المدينة العتيقة بتونس أين امتلأت حواسه بإبداعات الفنانين والحرفيين وبسلوكيات السكان والعابرين من المارين... فالتحق منذ سن الخامسة عشر بمدرسة الفنون الجميلة بتونس. وفي عام 1958 قرر أن ينطلق في رحلة حول العالم على متن دراجته النارية. كان زاده في هذه الرحلة الاستكشافية بين العواصم العربية والأوروبية بعض الثياب وأدوات لإصلاح دراجته وأقلام فحمية. وفي سنة 1961 التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في كولونيا لتكون ألمانيا الوطن الآخر الذي صقل فيه موهبة الرسم وعرف فيه الحب والزواج و اختبر على أرضه أكثر من مهنة ذات علاقة بالفنون والديكور والهندسة المعمارية ...
هو فنان تونسي الهوية وألماني الإقامة، حمل معه الوطن في حقيبة ليسكن إليه ويسكن فيه... لا تلبث أن تطل علينا تونس بشمسها ودفئها وتفاصيلها الحميمية في لوحات رشيد العلاقي. ما بين مغرق ومشرق، يوزع هذا الفنان ألوانه وأشكاله في انسجام مع مناخات البلدان التي زارها أو أقام فيها... فتأتي متوهجة وحارة تارة، ورمادية وباردة تارة أخرى.
لم يتوقف رشيد العلاقي عند حاجز إصابته منذ الصغر بمرض "عمى الألوان" بل واصل طريقه على درب الرسامين الكبار الذين لم يستسلموا لهذا الحاجز البصري على غرار " كلود مونيه" و فان غوخ" و"رابندرانات طاغور... فإذا به يرسم الحياة عن طريق الفرد كموضوع أساسي للوحاته التي تحتفي بالفرح، كما تبكي من الوجع على إيقاع سمفونية الإنسان بما هو جوهر الوجود.
الصدفة وراء صدور كتاب عن مسيرته
70 سنة وأكثر، قضاها الفنان رشيد العلاقي في ترويض الألوان ومصادقة الأشكال حتى استحال كونه إلى لوحة وفرشاة وفكرة. هي مسيرة فنية متفردة، تلقفتها الكاتبة والباحثة "بياتريس دونويز" - أصيلة إمارة موناكو والمنحدرة من عائلة موسيقية - لتوثقها في كتاب أنيق الطبعة من الحجم الكبير اكتفت بعنونه:" رشيد العلاقي"، وكأنها على يقين وإقناع بأنّ رجع صدى هذا الاسم وحده كافيا للدلالة على سيرة فنان يترك أثرا لا ينسى ويرسم لوحات عصية عن النسيان !
كانت الصدفة هي من قادت "بياتريس دونويز" إلى التعرف على فن رشيد العلاقي، حيث استرعت انتباهها لوحاته التي ازدانت بها عيادة ابنه الطبيب ، فسألت عن من يكون صاحبها؟ ومن هناك انطلقت رحلة التقصي ما بين ألمانيا وتونس عن النشأة والبدايات ومسارات الحياة والفن.
في توثيق لأهم أعماله التشكيلية وعلى امتداد 142 صفحة وباللغتين الفرنسية والإنڤليزية في (ترجمة منيرة العلاقي) ، جاء الكتاب عن التجربة التشكيلية لرشيد العلاقي جامعا بين مقومات النقد الأدبي وآليات النقد التشكيلي.وعلى عكس معظم المونوغرافيات التي تحتكم إلى المعطى الزمني اختارت المؤلفة تقديم الفنان عبر رصد الموضوعات المتكررة في أعماله وتشريح بنيتها العميقة عبر ثنائتي الوعي واللاوعي.
تقول دونوييه في تقديمها لرشيد العلاقي "إنّ تسامي الحياة اليومية، وحب عامة الناس وتمثلاته للمرأة، وحتى مشاهد الكرنفال، تكشف لديه طريقة شخصية للغاية في النظر إلى العالم والآدميين: فهو ينظر إليهم مثل مجنون يتأمل ليلى. وهو مثل الشاعر لا ينظر إلى الغلاف الخارجي، وإلى الجمال الشكلي، بل إلى النور الداخلي الذي ينعكس على اللوحة".
"باب الفلّة" المنشأ والبدايات... والمرسم
في " باب الفلة" ولد ونشأ، ليكبر وفي روحه تفاصيل المكان التي رسمتها في بعد ريشته كمصدر إلهام وحملتها حقيبته كذاكرة للوطن وللحنين ... يقول رشيد العلاقي إنه تأثر بكل التفاصيل البسيطة في باب الفلة من عادات واعتيادات ومهن وروائح ونكهة مميزة ... فاختار أن يرسم هذه الحياة اليومية الشعبية وأن ينغرس فيها روحا وإبداعا بدلا من الانسلاخ عنها والتوجه إلى رسم الطبيعة والبورتري وباقات الزهور ... تقول "بياتريس دونويز" عن التيار الفني لرشيد العلاقي إنه "لا ينتمي إلى مدرسة محددة، فهو يطوّع أسلوبه وفق ما يريد أن يرسمه. ومع ذلك تتجلى في جميع لوحاته لمسات فرشاته المتشنجة والمادة المعقدة وألوانه المفاجئة في كثير من الأحيان والمضيئة جدا، وولعه بالرسم الزيتي والتمثيلي ورؤيته الإنسانية، فهو يركز في لوحته على الفرد الذي يشكل العنصر الأساسي في أعماله، إنه لا يحب الطبيعة الصامتة التي لا تعبر عن أي شيء".
اشتعل رأس رشيد العلاقي شيبا لكن إبداعه لا يشيخ وجذوة الفن لم تنطفأ بين أنامله ، فرغم بلوغه 83 عاما، فإن مرسمه في "باب الفلة" ورواقه الخاص في ألمانيا لا يزالان يشهدان على مسيرة فنان يقضي أغلب ساعات اليوم في الرسم ومحاورة بياض اللوحة حتى تستحيل إلى كون من المواضيع والأحاسيس ... حيث لم يمنع "عمى الألوان" ألوان رشيد العلاقي من الانفجار !