وأخرى مؤطّرة وعموما فإنّ هذا التقرير يعدّ عملا محمودا يقوم به المنتدى وأداة هامة تنير المتابعين للوضع لفهم ما يجري وخصوصا أسباب العنف الاجتماعي المتزايد الذي يشهده المجتمع التونسي.
وما يهمّنا من هذه المقدّمة الطويلة هو التمهيد والإشارة إلى أنّ السيطرة على العنف ممرّ إجباري لتحقيق التنمية الاقتصاديّة و كذلك الاجتماعيّة وربّما يكفي أنّ نشير إلى أنّ البنك الدولي خصّص تقريره السنوي لسنة 2011 لهذا الموضوع و أفرده بجملة من البحوث والدراسات وخلص إلى تقديم حزمة من النصائح للدول المعنية للسيطرة على هذه الظاهرة التي تعدّ أكبر معرقل للتنمية .
حكومة الشاهد مجبرة مثل غيرها من الحكومات وخصوصا اعتبارا للكلفة الماليّة و الاقتصاديّة والاجتماعيّة للعنف أن تنكبّ على هذه الظاهرة وتجد لها حلاّ فالسيطرة عليه هي بوّابة التنمية ولا وجود لبوّابة أخرى.
586 حركة احتجاجيّة خلال شهر واحد بينها تحرّكات عنيفة وخطيرة ترتقي إلى مرتبة الإرهاب وأغلبها غير مؤطّرة من قبل منظّمات أو جمعيّات أو هيئات أهلية معروفة لدى السلط وكلفة اقتصادية عالية وانعكاسات مدمّرة على ما بات يعرف بسيادة القانون وفي هذا المجال احتلّت ولاية قفصة التي تضمّ الحوض المنجمي مكانة متميّزة وكانت ضمن كوكبة من الولايات ذات القدرة الاحتجاجيّة العالية وهي : تونس الكبرى والقصرين وسيدي بوزبد وجندوبة والقيروان ومدنين.
ومعلوم أنّ الحركة الاحتجاجيّة ليست جديدة في الحوض المنجمي فهي متواصلة منذ انطلاق الثورة وحتى قبلها ويمكن حوصلة أسبابها في الآثارالتي ترتّبت عن سياسة الإصلاح الهيكلي لقطاع الفسفاط والتي طبّقت منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وقد تركّزت على مكننة الإنتاج واستغلال المقاطع المفتوحة وتركيز وحدات غسل في كافّة المراكز المنجميّة والاستعمال المتزايد للمتفجّرات و الاستغلال المفرط للمياه الجوفيّة (25 مليون متر مكعّب سنويّا) والمرور بإنتاج الفسفاط من 3 إلى 8 مليون طن سنويّا. هذه الطفرة في الإنتاج المصحوبة بارتفاع غير مسبوق للأسعار في السوق العالمية جعلت من شركة فسفاط قفصة مؤسّسة ضخمة وجعلت من الحوض المنجمي بؤرة للتوتّر فخلال نفس الفترة 1985 - 2005 فقد الحوض المنجمي أكثر من 10 آلاف موطن شغل، أي ما يزيد عن 15 % من عموم السكان وربّما ضعف ذلك من السكّان النشطين. وحسب مسؤول نقابي كبير على المستوى الجهوي فإن عدد الأجراء تقلّص من 18 ألف في منتصف الثمانينات إلى 4885 سنة 2010. وهكذا فإن الكلفة الاجتماعية للإصلاح الهيكلي وخصوصا المكننةكانت ثقيلة وذات آثار مدمّرة على النسيج الاجتماعي بالحوض المنجمي وحتى المناطق المجاورة.
السلط العمومية لم تهتد إلى وصفة كفيلة بمعالجة هذه المعضلة بل أنها زادت الطين بلّة من خلال الانغماس في إغراء من تبقّى من العمّال والإطارات بأجور عالية وأحيانا خيالية وامتيازات لا مثيل لها وهو ما ترتّب عنه تشكّل جزيرة من المحظوظين وسط بحر من المعوزين ورضوخها لإرادة النقابيين الجهويين الطامحين إلى تحقيق الحدّ الأقصى من الامتيازات لمنظوريهم مقابل سلم اجتماعي غير مسبوق وهو مـا كرّس القطيعـة بيـن أقلّيـة 3 % من سكّان الحوض المنجمي يعملون بأجور عالية و97 % هم بقيّة الأهالي بعضهم يعمل بأجور زهيدة والأغلبية الساحقة لا تعمل بالمرّة .
هذا التمشّي التخريبي للنسيج الاقتصادي والاجتماعي أثمر انتفاضة الحوض المنجمي السلمية والتي جوبهت بالعنف والغطرسة والتعسّف والتجاهل وحتى التنيدد من قبل من يتبنّون اليوم وهم في السلطة الاحتجاجات العنيفة والمدمّرة للاقتصاد الوطني والأخطر من كلّ ذلك ما ترتّب عنها من شلّوا عمليّة انبثاق نخبة جديدة خارج الأطر التقليديّة (النقابات والمنظّمات الأهلية والأحزاب) قادرة على تمثيل مطالب الأهالي والتفاوض والالتزام باسمهم، ومع حلول الثورة، كانت الصورة كالتالي : نخبة قديمة وتقليديّة ذات ولاء مطلق للسلطة لا تمثّل إلاّ أقلية محظوظة من الأهالي وتعتمد على الجهاز الأمني لبسط نفوذها وتجاوز القطيعة التي تعيشها مع الواقع مقابل مشروع جنينيّ لنخبة جريحة قاست من القمع والغطرسة وشلّت حركة تموقعها الطبيعيّة. وإلى جانب هذه النخبة وتلك جموع محرومة حالمة ومتطلّعة لدخول نادي 3 % ولأخذ نصيبها من الغنيمة ، جموع تختزن عنفا لا محدودا راكمته خلال سنوات البطالة دون أن ننسى تربّص بعض القوى ذات ثقافة تدميريّة مارست على مدى ربع القرن الأخير وفي نطاق معارضة النظام القائم سياسة قوامها التخريب الاقتصادي المباشر وبثّ ثقافة الفتنة والعداء للدولة والمؤسسات والتمرّد على القانون . هذه القوى التي ترعرعت في ظلّ هذه الثقافة لمدّة أربع عشريات لا يمكن أن تتخلّص من هذه العقلية بين عشيّة وضحاها وهو ما عشناه على أرض الواقع لمّا تسلّمت هذه القوى مقاليد البلاد فخرّبت في بضعة أشهر ما بناه الشعب على امتاد نصف قرن خير دليل على ما نزعم.
وعموما فإنّ الحوض المنجمي يفتقد اليوم إلى قيادات ونخب ممثّلة قادرة على استنباط حلول للمشاكل القائمة وقادرة خاصة على تعبئة الأهالي للخروج من هذا النفق. وحتى الحركات الاحتجاجية وحسب بعض المصادر المطّلعة وذات مصداقية تتشكّل في حالات عديدة من مجموعات لا ترفض العنف وبعض عناصرها من الأواسط الإجرامية المعروفين بالجهة وبالتالي فإن المضامين الاجتماعية النبيلة التي تأسست على أرضيتها الحركة الاحتجاجية في المناجم باتت من الذكريات وما يحدث هو استهداف للدولة واستهداف لأمن البلاد وضرب لمقدّرات الاقتصاد الوطني وزعزعة لجملة القيم التي أثّثت الفضاء المنجمي على امتداد قرن كامل، وإلا ماذا يعني أن تظلّ المقاطع و المغاسل والورش مغلقة لمدّة أيام وأسابيع وأشهر والجميع يتقاضى أجورا سخيّة ومنح الساعات الإضافيّة ومنح ساعات الحضور والإنتاج، إنها مهزلة بأتمّ معنى الكلمة والمطلوب محاسبة كل من ساهم فيها.
ما شهده الحوض المنجمي طيلة السنوات الخمس الماضية ترجمة أمينة لضعف الدولة وتقاعس ممثّليها أمام العصابات الإجرامية وقد ساهمت ورطة التمثيليّة الغائبة أو المنقوصة في تفاقم الأوضاع. فالتمثيلية الجهوية على المستوى الوطني لا تعكس التركيبة الحقيقيّة للوضع السكاني بل تعكس فقط إرادة «الائتلاف المهيمن» على المستوى الوطني (6 من 8 نواب لكتلتي النهضة والنداء) إلى جانب التمثيل المحلّي الغائب باعتبارعدم وجود مجالس بلدية. هذا الوضع قاد إلى إقبال بعض المحتجّين على استنباط الممارسات العنيفة واللجوء إليها بصورة دورية وفرض آتاوات على المواطنين وخصوصا التجّار بالأسواق الأسبوعيّة وهو ما يجعل من بعض المنتمين إلى هذه المجموعات نواتات إجرامية بأتمّ معنى الكلمة. السؤال الكبير اليوم هو كيف يمكن احتواء العنف في الحوض المنجمي؟ وكيف يمكن انتاج الفسفاط و نقله دون عراقيل؟
جلّ الإجراءات التي اتّخذت منذ الثورة لم تكن العلاج المناسب لأمراض الحوض المنجمي، كلها أدوية غير مناسبة ولها انعكاسات جانبية خطيرة ولعلّ أخطرها على الإطلاق هو توظيف حوالي 15000 مواطن لا ينتجون شيئا وزائدون على الحاجة ومروّجون لثقافة الريوع. لقد أدخلت هذه الظاهرة أخطر مرض قد يصيب مجتمعنا وهو التحوّل إلى اقتصاد ومجتمع ريعي لا غير... 15 ألف مواطن يتقاضون أجورا و يتمتّعون بالتغطية الاجتماعية ويتمتّعون بالراحة السنوية الخالصة الأجر ويتقاضون منحة الحضور والإنتاج وهم لا يحضرون ولا يعملون وبالضرورة لا ينتجون، والأغرب أنهم وظّفوا ضمن شركات ذات أهداف مضحكة مثل شركات البستنة و البيئة في مناطق لا تتوفّر على الماء الصالح للشراب. أيّة بيئة وأيّة بستنة في أم العرايس حيث السكان يعانون من العطش؟ أي زهور وأشجار في الردّيف والمظيلّة و كاف شفاير والجلاّبية وغيرها من مقاطع الفسفاط ؟ أي شركات للبستنة والبيئة في الصخيرة والسند وقابس وزانوش وقريبا المكناسي ومنزل بوزيان وتوزر ونفطة وربما قريبا روما ومرسيليا وهي مواقع لم تنتج يوما ذرّة فسفاط؟ يطلّ المرء مندهشا أمام كمّ الخراب الذي يتكدّس يوميا فخلال هذا الأسبوع أو الذي قبله نشرت الصحف أخبارا عن اعتزام شركة فسفاط قفصة انتداب 1700 عون جديد، إنه الجنون، أكثر من عشرة آلاف لا يعملون والنيّة تتّجه إلى إضافة حوالي الألفين ولماذا اللفّ والدوران؟ ولماذا لا
تستغل الشركة كل طالبي التشغيل ما دامت لها القدرة على تسديد الأجور علما وأنها قفزت من 120 مليون دينار سنة 2010 إلى 260 مليون دينار سنة 2016 مع نزول الإنتاج من 8 إلى 3 مليون طن. صاحبة الجلالة لا توزّع الأجور فقط، لقد وزّعت ريعا لعشر عائلات تونسية، وهي الأغنى بالبلاد، لا يقلّ عن خمسة آلاف مليار مليم، هذه العائلات تنشط في مجالات تمثيل الماركات العالمية لتجهيزات الأشغال العامّة أو تلك الخاصة بالشاحنات إلخ. وربما نعود إلى هذا الملفّ بصورة ....