الحلم والهذيان

قد يكون كافيا أن يقرأ الواحد منا كلّ صباح مقاطع للشاعر الفلسطيني محمود درويش حين يقول ''لا شيء يعجبني

لا الراديو لا صحف الصباح أريد ان أبكي '' أو يسمع آخر تسجيل لإلقاء شاعرنا التونسي محمد الصغير أولاد أحمد '' إلاهي أعني عليهم .. أعوذ بك الآن من شرّ أهلي '' ففي ذلك رغم هول ما نعيشه تعبير عن حاجة ما الي العصيان الجمالي و الوجداني و تأكيد القطيعة التي يعيشها مع واقع لم يعد له فيه موقع ولا دور وصار فيه غريبا لا ملاذ له إلا وحدة المتصوف أو نديما لا يخشي من انفضاح هشاشة نفسه أمامه .

ومع ذلك لا بدّ من قول كلمة الحق في زمن عزّ فيه قول الحق : نحن نعيش وفق كلّ المؤشرات في مجتمع تحوّل في ضرف عشر سنوات من معايشة الحلم و الاحتفاء به الي هذيان جماعي سريع الانتشار و التوسع بتعهدرسمي و نخبوي , فهم هذا التحوّل السريع ليس أمرا هينا وتجاهله و التغافل عنه محفوف بالمخاطر , لقد أصبح من أوكد مهام الفكر السياسي قبل الفعل مسلحا بعدة العلوم الاجتماعية و الإنسانية و التاريخية وضع هذه المهمة على أجندا المهام الملحة وحتي الدولة إن عزمت الاضطلاع بهذا الواجب فذلك ممكن إن دعت له من هو قادر عليه يقول و الحق ولا يجامل . لأن الأفراد لا يهذون بنفس الطريقة في كلّ العصور وفي كلّ المجتمعات . ولا بّد أن نعرف ما بنا .
أن يكون لمجتمع ما يطوبيا يتوق إليها ففي ذلك عنوان انعتاق وتحرر و مصدر لتوليد طاقة عمل و تضحية و خلاص جماعي وهو ما كان فعلا للتونسيين فجر الاستقلال فرغم الفقر وتركة الاستعمار الثقيلة نجحت الدولة الوطنية الفتية ان تؤجج فينا طاقة الحلم الخلاقة بالتعليم و تحرير النساء و صورة غيلان بطل رواية السد للمسعدي بالمسرح و السينما ...
كان حاضرنا حينها صعبا ولكننا كنا نبني أنفسنا و مجتمعنا ووطننا ونحلم بكلّ ذلك قبل أن يصير واقعا كان الحلم كافيا لنحيا و لا تقتلنا صلابة الحياة نمشي على المسامير سكوتا لأننا نلمح نهاية الرحلة
كانت تلك الدولة الراعية الصانعة للحلم أبوية تسلطية لكنها فتحت لأحلامنا مستطاعا سمح للكلّ تقريبا ان يري آخر النفق وفي استحضار هذه الحقيقة التاريخية لا نية لنا لتبرير تسلط الدولة و سطوة الزعيم القائد و عنجهية الحزب الواحد بل فقط التذكير باننا كنا نعرف ماذا نريد و نتقدم نحوه بخطي واثقة كانت عقلانية الدولة ترعي حلمها وكانت للمجتمع كتلة تاريخية قوية وحّدت البرجوازية الصغري و قوة الشغيلة و أرباب العمل وكان يرعي أحلامنا اليانعة , ربما كانت حظوظنا في الحلم غير متساوية ولكن لم نحرم كليا من الحق في الحلم متاحا على مقاعد الدراسة و في غير مكان .
بين خيبة مشروع الدولة الراعية للحلم بداية الثمانينات و الثورة لم يكفّ الصراع بين الحالمين العفويين حتي بانتصارات بسيطة و الجلادين حين صادروا الحلم ونشروا القبح في شوارعنا بل ظلّ مدار النزاع هو ديمومة الحلم أو ديمومة كابوس التسلط و الفساد من حسن حظنا أن أجيالا مضت ولم تقبل وقف الحلم وكانت عنوان كرامة في تاريخ الوطن و إرثها اليوم جزء من المستقبل القادم .
كانت تلك العقود العصيبة بكلّ آلامها ومفاخرها عقود مواجهة بين دولة أغلقت أفق المستقبل و مجتمع تشرب كلّ أسباب الحلم العنيد لم تنجح الدولة في تجفيف منابع الحلم و لم ينجح الحالمون في التحولّ إلي كائنات واقعية تقلب موازين القوي وضل توازن الضعف لسنوات سببا في العطالة .
ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي فتحت سماء الحلم على اللامتناهي , لقد تكلّم التّابع و انتفض الغلابة وثار كلّ شعب تونس الصغير في ارض الشرق المسلم في دهشة من برنال لويس و فوكوياما وهما من تنبآ بنهاية التاريخ وبديمومة الاستثناء الإسلامي المحكوم بنيويا بالإستبداد أبديا لم نعد فقط بعد أن حرّرنا أنفسنا ورثة الأجداد و لا أيتام بورقيبة صرنا شعبا جديرا بالحياة و الحرية إنتزعناها بإقتدار ودون منة من أحد وسنضل مدينون لأرواح الشهداء من مكنونا منها وجعلوها في رقابنا أمانة
انفتاح سماء الحلم اصبح متاحا للجميع لم يكن حدثا بسيطا فسرعان ما رافق التوزيع العادل للأحلام بين التونسيين تجليا لافتا للهذيان فمنا من راي في الحلم خلافة سادسة و جمهورية إسلامية ومنا من راي فيه دولة ديمقراطية لائكيه باردة تجاه الدين و المتدينين على نمط الجمهورية الفرنسية ومنا من منّي النفس في اعتصام القصبة بتكرار تجربة انتصار البلاشفة ورقصة لينين فرحا بدخول الثوار للقصر الشتوي .. ومنا من رفض كلّ الثورة وحلم بعودة بورقيبة أو صعود أب جديد بعد أن أقدم الثوار بالمعني الفرويدي على قتل الأب
صراع الأحلام بل تصادمها على قارعة الطريق لم يكن هو المشكل بل ربما كان ضرورة لمجتمع تسلل التسلط و الحكم الفردي الي شغاف لاوعيه أفرادا نساء ورجالا وقبائل و جماعات وطبقات ما مثّل جوهر المشكل هي إرادة مصادرة حلم الغير ثم قهر أحلام الضعفاء باسم الجهل المقدس لبعض أيمة المساجد حينها و سلطة الأغلبية وأولية الأمن و الاقتصاد وتسديد الديون ..
بمعني ما كانت خطيئة من حكموا بعد 2011 هي الجهل بالحاجات النفسية و الرمزية و الوجودية و التواصلية للتونسيين فضلا عن انتظاراهم الاجتماعية و الاقتصادية ما نجحت فيه نخبة الاستقلاللحين بوضعها نظام خطاب جماعي متحوّل فشلت فيه النخب الحاكمة الجديدة
اليوم رغم الآمال التي فتحتها للأغلبية الجديدة انتخابات 2019 ثم منعرج 25 جويلية , لم نعد نحلم بل صرنا نعيش حالة هذيان جماعي جعلتنا نطبع مع اللاّمعني و مع الشر أحيانا فخطاب الكراهية و شيطنة الآخر و ارتفاع حالات الإنتحار و العنف المسلط خاصة ضدّ النساء , و حجم العنف اللفظي السائد في المجتمع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي و سهولة إنتشار الإشاعة و الغرائب و سيطرة التعاليق السطحية على أحداث مركبة و التعود على ابتذال النخب وشتمهم وكراهية المهاجرين .. مظاهر شتى لهذا الهذيان كانت مبعث القلق من هذه الحالة ولا تثير إنزعاج أغلب الناس فكأننا نعيش تهيئوا ثقافيا و نفسيا للكف عن الحلم و قبول تحلل الروابط الجماعية و دخولنا التدريجي في حالة فوضي شاملة فلا الدولة منشغلة بما يجري ولا المجتمع منتبه الي ما أصيب به .
مثل هذه العلامات ليست فقط حالات إكتئاب أو باتوليجا نفسية فردية بل هي علامات على مجتمع مأزوم تفككت روابطه القديمة و لم يبني روابط جديدة وليس له مشروع جماعي هنا يصبح السؤال سياسيا بالمعني الكامل : كيف تحولنا اليوم من حلم الدولة ثم حلم الثورة الي التطبيع مع الهذيان ؟ وهل مازال إنقاذ طاقة الحلم ممكنا ؟
ليست هناك مسؤولية آلية لطرف واحد لهذا الانهيار الاجتماعي و النفسي الشامل فنحن إزاء وضع هو نتاج للتاريخ ولبنية العلاقات داخل المجتمع و الحضور القوي لإعلام السهولة و لثقافة المجتمع الاستهلاكي و المشهدي ومع ذلك وكما تؤكد على ذلك مناهج التحليل النفسي المعاصرة صارت الأوضاع السياسية منتجة للاضطراب السلوكي و لغياب السكينة فمجتمع الفراغ و الخوف و الوحدة هو مجتمع تنتجه و تبرره سياسات تسلطية و أيديولوجيات نيو ليبرالية تقشفية فردانية و شعبوية وقومية وعنصرية لا تحكم إلا بتأجيج سردية المؤامرة .
من مظاهر أزمة كلّ مجتمع صار منتجا للكراهية نجاح الدعاية الأيدولوجية داخله بأنه مجتمع غير قابل للحياة قبل أن يتخلص من أمراضه ومن أعضائه الفاسدة فسواء كانت هذه الدعاية تجعل من العلماني و الملحد اليساري و المرأة الحرة.. نشازا لا بد للمجتمع المسلم ان يتخلص منه أو كانت بالعكس علمانية حداثية لا بد أن تطارد الرجعيين و الظلاميين و أعداء العقل و الحربة فالنتيجة واحدة هي لا قابلية المجتمع للحياة كمجتمع تعددي حرّ ومسالم فالمجتمعات الصغري المغلقة تمنع قيام المجتمع المفتوح وتضع أفرادها في حالة رهاب قصوي من الآخر ولا تري الحياة ممكنة قبل غيابه و تصفيته الرمزية بالصمت و اللامرئية او الجسدية بالموت و السجن و النفي و الترحيل
علينا أن نقر بأن تهيئة هذا المناخ الذهني و العاطفي الانفعالي مسؤولية الجميع ولكنه اليوم مسؤولية من يحكم حيث صارت الغلبة اليوم لمقولة العشرية السوداء مدخلا لنفي قيمة الديمقراطية و الحاجة إليها و صار الارتياب من الآخر خائنا متآمرا فاسدا وضرورة تصفيته حاجة حيوية وهو ما لا يتحقق بالديمقراطية و الحرية و حقوق الإنسان فتلك مسارب قديمة بل بقبضة الدولة الصارمة تتجلي حيثما وليت وجهك .
اليوم صار البعض منا ينظر الي السياسيين المعتقلين و الملاحقين و نشطاء المجتمع المدني والإعلاميين كأرقام وسكنتالقناعة لديهم قبل القضاء بأنهم متآمرون فهم ليسوا بشرا مثلنا لهم أجساد وكرامة وحقوق يتألمون و يشعرون بالضيم لقد جردناهم تحت تأثير الهذيان من إنسانيتهم أي قبلنا أن نطلق العنان لغرائز الانتقام و الفوضى و التشفي
لا أحد يجادل في علوية القانون و في وضع حدّ للإفلات من العقاب لكن حين نصبح مجتمعا لا يشعر بقسوة السجن على جسد و روح وفكر شيماء عيسي سجينة باسم من قالوا لا فذلك المثال الأقوي للتطبيع مع آلام الآخرين لهذا ولغيره من العلامات نقول بأننا فعلا مجتمع يعيش حالة هذيان جماعي وصحراء عاطفية لا مكان فيها للحلم و قد تزداد الأزمة حدة إن لم نتعهد أنفسنا
عزاؤنا رغم كلّ شيء هو حقنا في الحلم مجددا ربما ليس من المتاح اليوم حلم في حجم حلم الدولة ولا في حجم حلم الثورة ومع ذلك للأحلام الصغيرة اليوم معني حلم أن نحتفي بحرية بشيماء وبكلّ المظلومين و بكتاب لا يصادر و بإذاعة لا يلاحق ولا يسجن صحافيوها و بمجتمع مدني لا ينحني و نساء لا يهجرن ساحات الفعل المتاحة وشباب لا ييأس .. لدعوات انتصار العقل على العبثية .. أضيف حاجتنا لانتصار الحلم على الهذيان

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115