تطور كبير للعلوم الإنسانية والاجتماعية في السنوات الأخيرة برز في الكم الهائل للإصدارات والندوات والمؤتمرات .وقد حاولت هذه الطفرة البحثية والفكرية رصد وفهم التحولات الكبرى التي تعيشها بلادنا والمنطقة العربية اثر سلسلة الثورات .
وكان لقاء "إنسانيات" الذي نظمته جامعة منوبة في نهاية سنة 2022 فرصة للقاء والحوار بين مختلف ميادين البحث والمفكرين في العلوم الإنسانية والاجتماعية لربط جسور النقاش من اجل بناء منظومة معرفية جديدة قادرة على فهم التحولات الكبرى .
في هذه الطفرة المعرفية والفكرية يمكن ان نشير الى عديد الميادين التي عرفت تطورا كبيرا في ميدان العلوم الاجتماعية التي عرفت زخما فكريا كبيرا خلال السنوات الأخيرة.ولم يقتصر هذا الزخم على الجانب الكمي بل شهدت العلوم الاجتماعية تطورا كبيرا كذلك على مستوى الكيف وذلك من خلال تجديد أدواتها المنهجية و مجالات اهتماماتها مما يجعلنا نتحدث عن ثوة معرفية في ميدان الاجتماع .
وينخرط الكتاب الجماعي الذي اشرف على اعداده الباحثان عماد المليتي وهشام عبد الصمد تحت عنوان "مستضعفون – ملامح من سير سوسيولوجية" والذي نشرته دار النشر والذي سنقوم بتقديمه ضمن هذه الطفرة والثورة المعرفية في ميدان علم الاجتماع .
وقد اهتمت هذه البحوث والطفرة المعرفية بثورة الهامش وهيمنتها المتصاعدة على المجتمع الحديث والاقتصاد المنظم.
- ثورة الهامش وتراجع الاقتصاد المنظم
عرفت بلادنا في السنوات الاخيرة تطورا كبيرا للهامش ودخوله الكبير في المجتمع المنظم ومنافسته للاقتصاد المنظم .وقد أشارت عديد الدراسات ومن ضمنها دراسات المؤسسات الدولية وخاصة البنك الدولي الى التنامي الكبير للقطاع الغير المنظم في عديد المستويات ومن ضمنها التشغيل و المساهمة في الانتاج الخام .
وقد ساهمت عديد الأسباب في ظهور وبداية هيمنة الهامش على المجتمع الحديث وعلى الاقتصاد المنظم .ومن ضمن هذه الاسباب يمكن ان نشير الى تراجع سيطرة الدولة وتراجع هيمنتها على المجتمع، مما اعطى لهذه القطاعات فسحة ومجالا للبروز العلني والظهور بقوة والتحول من تخوم المدن والاحياء الهامشية والقصديرية الى وسطها والى أحيائها الرئيسية والتي كانت تقتصر في السابق على القطاعات المنظمة.وكانت الاحياء والشوارع الرئيسية في المدن واجهة لنجاح عملية التحديث وساهمت مؤسسات الدولة في هذه الفترة في لفظ وابعاد هذه النشاطات الى تخوم المدن.الا انه مع تراجع الدولة ومؤسساتها ضعفت قدرتها على كبح انتشار الهامش في وسط المدن لتصبح اغلبها مسرحا لعمليات كر وفر وحرب مواقع بين المهمشين وأجهزة الدولة .
اما السبب الثاني وراء فورة القطاع الهامشي فيعود الى الازمة الخانقة التي يعيشها القطاع الاقتصادي المنظم منذ عقدين من الزمن على الاقل .فقد تراجع الاستثمار والابتكار وعجز القطاع المنظم على تنويع قاعدته الانتاجية ليبقى مقتصرا بصفة أساسية على القطاعات ذات الكثافة العمالية .وكانت هذه الأزمة وراء لجوء الكثيرين الى القطاعات غير المنظمة للبحث عن لقمة العيش .
وقد ساهمت هذه العوامل في التطور الكبير لقطاع الهامش وخروجه السريع من تخوم المدن ليصبح احد الاوجه الأساسية في سوسيولوجية المدن الكبرى واحد المعالم البارزة في شوارعنا .وقد دفع هذا الحضور الباحثين والدارسين الى جعل الهامش مجالا للبحث والتمحيص والتفكير .
- الهامش وثورة علوم الاجتماع
اصبح الهامش موضوعا اساسيا للبحث في علوم الاجتماع في السنوات الاخيرة .والى جانب الجامعة فقد احتضنت عديد المؤسسات الاخرى وخاصة منظمات المجتمع المدني في هذا المجهود البحثي ونذكر منها "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" و"منظمة انترناشيونال الوت" و"جمعية تشاز" .
وقد ساهم هذا المجهود البحثي في التطور الكبير للانتاج الفكري والمعرفي في ميدان علوم الاجتماع لفهم ديناميكية الهامش وقوانينه .ومن بين الكتب التي تم نشرها فقي الفترة الاخيرة اذكر كتب ماهر حنين" مجتمع المقاومة" و"التمرد والمتاهة – شباب اليسار زمن الثورة والشعبوية " مع هشام عبد الصمد وكتاب سفيان جاب الله "سوق اسبانيا او منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس".
الى جانب الكم الهائل للانتاج الفكري في مجال علوم الاجتماع فقد بدات هذه الاعمال والبحوث في شق بدايات ثورة معرفية مهمة في تاريخ البحث في هذا المجال .ويمكن أن نشير إلى ان هذا المجال عرف مرحلتين تاريخيتين هامتين .بدات المرحلة الاولى مع بعث "مركز البحوث والدراسات الاجتماعية" والمعروف باسم " GERES" او السيراس حيث لعب قسم علوم الاجتماع دورا رياديا في تطور البحوث والدراسات في هذا المجال .وقد أعطى الجيل الاول الأولوية للبحوث الميدانية والنقاشات مع الفاعلين الاجتماعيين .
اما المرحلة الثانية فقد عرف فيها علم الاجتماع تطورا كبيرا في الجامعات ليطغى فيه العمل الأكاديمي والنظري مع تراجع البحث الميداني بطريقة كبيرة .
وتشكل الطفرة والزخم الذي عرفه هذا المجال في السنوات الأخيرة بدايات لمرحلة جديدة في علوم الاجتماع او ما يمكن ان يشكل ثورة معرفية جديدة في دراسة الهامش والديناميكية الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها بلادنا .
ويمكن ان نشير الى أربع ميزات وخصائص اساسية لهذا الجهد البحث والمعرفي .تهم الخاصية الاولى انفتاح الجيل الجديد من الدراسين على الانتاجات والبحوث على المستوى العالمي واهم الباحثين ومن بينهم والزرميكاييل (Walzer Michael) وبيار بورديو (Pierre Bourdieu) وقارتز كليفورد (Geeertz Chifford) .
اما الميزة الثانية تهم التأكيد على الهامش لفهم طفرته وتحوله السريع من التخوم الى المركز ليصبح عنصرا أساسيا في الديناميكية الاجتماعية .وتخص الميزة الثالثة خيار العودة الى الميدان على حساب البحث الاكاديمي التقليدي واعطاء الأولوية لسرد الفعلين على حساب العمل المفاهيمي والنظري البحت.
ويهم العنصر الرابع هو الربط بين الجانب العام او (macro) والجانب الذاتي او (micro).
وقد شكل هذا المجهود البحثي في تقديرنا نقطة انطلاق لمرحلة جديدة في علم الاجتماع في بلادنا منفتحة على التيارات الجديدة في هذا المجال ومنفتحة على التيارات الجديدة في هذا المجال على المستوى العالمي ومن ضمنها تيار ما يسمى بـSubaltern studies او دراسات المهمشين والذي عرف تطورا كبيرا في الجامعات الامريكية في السنوات الاخيرة .
وينخرط كتاب "مستضعفون – ملامح من سِيدٍ سوسيولوجية " والذي نحن بصدده في هذا التمشي .
- "مستضعفون ،سير الهامش وسرديات الحياة "
لم يعتمد هذا الكتاب على التمشي الجامع والكلي او الماكرو بل اختار الغوص في اعماق الهامش من خلال 15 سيرة ذاتية وقع تبويبها في ثلاثة محاور وهي المقاومة والانفلات ، والتأقلم والشطارة والمعاناة العادية .
وقد نجحت هذه السير في نحت عالم الهامش وابراز جوانب مهمة في تشكله وحركته .ولعل اول جانب برز في هذه السير هو الاحلام البسيطة كما اشار الى ذلك عماد المليتي في المقدمة العامة والتي نجح فيها في ابراز تقاطعات هذه المسارات .فالأشخاص موضوع البورتريهات لا يعملون على تحقيق اشياء كبرى او استثنائية بل يسعون الى بناء حياة عادية والابتعاد عن حياة تشبه الموت كما اشر ذلك احدهم .وهذا المسار الصعب والحياة القاتمة تتميز بالفراغ وعدم القدرة على صياغة المشاريع وبناء المستقبل .
وتمثل الهشاشة احد الجوانب المهمة والأساسية في حياة الهامش ومساراته .وقد أجمعت هذه السير على وجود نقطة انطلاق تكون عادة وراء الانحدار المتواصل في الهامش .
وتشكل نقطة تغيير المكان محاولة لتغيير حياتهم ومساراتهم الذاتية لتكون "الحرقه" الوسيلة الاكثر شيوعا للقيام بهذا التغيير .واشار عماد المليتي الى ان "مشروع الحرقة ، فضلا عن كونه يخيم على جميع السرديات تقريبا ،ياتي هنا ليؤكد لنا على فرضية طالما اعترضتنا مفادها ان الحرقة لم تعد عملية فردية ، فحسب وحلما يختمر في اذهان البعض بل مشروعا جماعيا تحمله المجموعة العائلية التي تامل في جني ثماره وترى فيه طوق نجاة لكائنات في حالة ضياع " (ص 27)
كما تؤكد هذه السير على الشعور بالاحباط الذي يعتمل داخل هذه الشخصيات والشعور الظلم مما يدفع الا الابتعاد عن الظهور والأضواء لتفادي المزيد .ولعل الجانب المهم في هذه السير هو الحضور الكبير للعنف والذي ياتي من أماكن مختلفة من العائلة الى الحي والعنف المؤسساتي لأجهزة الدولة .
ورغم سوداوية هذه السير الا ان ما يجمع بينها هو التعلق بالحياة والرغبة الكبيرة في الخروج من هذا العالم المظلم الى فضاءات أكثر نورا .
يقدم لنا هذا الكتاب قراءة مهمة في عالم الهامش من خلال سير ذاتية نجحت في تقاطعاتها في ابراز اهم ملامح هذا العالم .وفي نفس الوقت ساهم هذا الكتاب في دعم هذا التوجه الجديد في علم الاجتماع وفتح مرحلة جديدة تضع ثقلها على التحولات الكبرى التي تشهدها بلداننا من خلال زحف عالم المهمشين على المركز وتراجع عالم الحداثة المنظم .وفي رأيي لا تقتصر انعكاسات هذا الهجوم الكاسح لمن لا صوت لهم على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بل تشمل كذلك المجال السياسي حيث ساهمت في تراجع أدوات الحداثة السياسية كالأحزاب والنقابات وأزمة الديمقراطية التمثيلية
هذه الانعكاسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعالم القادم تدفعنا الى مزيد البحث والاهتمام بعالم الهامش ودعم الجهد البحثي في الجامعات وفي منظمات المجتمع المدني التي تربط التفكير بالفعل السياسي والاجتماعي .