والعدالة الجبائية، فهل بالإمكان أمام تعدد المفاهيم، أن نقترح إضافة مفهوما جديدا ألا وهو الضرر الجبائي وهي الوضعية التي تصبح فيها الجباية عائقا للتنمية ولكل محركاتها، من خلال الترفيع في الضرائب والأداءات وتأثير ذلك سلبا على خلق الثروة والرخاء العامّ.
I- تأثير الجباية على التنمية ومحركاتها
تعتبر الجباية من أهمّ الوسائل المعتمدة من قبل الحكومات لتوجيه سياساتها الاقتصادية وماليتها العمومية، كما للجباية تأثيرا جليا على النمو الاقتصادي، وكذلك على الاستثمار والتشغيل وبصفة عامّة على مستوى عيش المواطن ورفاهته.
والسؤال المطروح في هذا الإطار يكمن في معرفة متى يكون هذا التأثير إيجابيا؟، هل في صورة الترفيع في الضرائب والأداءات أو عند التخفيض فيها؟.
يدعم بعض خبراء الاقتصاد سياسة الترفيع في الضرائب (ستيكليتس وبيكاتي) إلاّ أنهم يختصرون هذا الترفيع على المداخيل المرتفعة جدّا. وفي المقابل يعتبر عديد الاقتصاديين أنّ الترفيع في الضرائب يشلّ الإنتاج ويحدّ من الاستثمار ويعتبر عائقا جديّا للنموّ الاقتصادي وخلق مواطن الشغل. وتستند هذه النظرية على التحقق من نجاعة « المضاعف الجبائي» «Le multiplicateur fiscal ”. وفي هذا الإطار أثبتت دراسة قام بها الاقتصادي الأمريكي «رومر» أن التخفيض في الأداءات بنسبة 1 % من الناتج الإجمالي الخام على مدى ثلاث سنوات يؤدي إلى ارتفاع الناتج الإجمالي الخام بنسبة 3 %.
ويستند هذا الاستنتاج على نظرية المفكر العربي الكبير عبد الرحمان بن خلدون التي تظهر عبقريته وسبقه لأهل زمانه وزماننا. فقد أكّد هذا العالم في مقدمته أن فرض ضرائب مرتفعة يؤدي إلى خنق النشاط الاقتصادي وقتل حوافز العمل والاستثمار فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ.
لا يعني ذلك طبعا أن الضرائب ليست بأهمية تذكر عند ابن خلدون بل هي بأهمية «الانفاق الحكومي» التي لا بدّ على الدولة أن تحسن التحكّم فيه، دون اللجوء للتعسّف في فرض الضرائب ظنّا منها أن الزيادة في هذه الأخيرة، سيؤمن مصدرا إضافيا يغطي العجز في ميزانيتها.
وتستنتج أخيرا بدون أي مجال للشكّ أن ترفيع الضرائب يؤدّي إلى تخلّي المستثمرين على الاستثمار وخلق فرص العمل وإلى انكماش الاستهلاك وخلق الثروة مما يؤكّد المقولة «الضريبة تقتل الضريبة».
ماذا عن السياسة المتبعة في تونس بالنسبة لهذه النظرية التي تعتبر زيادة الضرائب عائقا كبيرا للنمو من خلال عرقلة الاستثمار وتعطيل كل محركات التنمية؟
II- الإجراءات الجبائية الواردة
في قوانين المالية الأخيرة
تضمنت قوانين المالية لسنوات 2017 إلى 2022 عديد الإجراءات الجبائية يناهز عددها 300 إجراء، أي بمعدّل 50 إجراء جديدا سنويا.
لإن كانت بعض الإجراءات تتعلّق بمواصلة الإصلاح الجبائي والتصدّي للتهرّب الجبائي وتحسين الاستخلاص وتطوير الإدارة، فإن عديد الإجراءات الأخرى جاءت للترفيع في الضرائب وبالتالي في نسبة الضغط الجبائي.
وبالرجوع إلى الإجراءات الواردة بقوانين المالية لسنوات 2017 إلى 2022، بلغ عدد الإجراءات المتضمّنة ترفيعا في الضرائب والأداءات 36 إجراء، منها ثلاثة إجراءات تمّ سنّها بصفة ظرفية أي محدودة في الزمن على غرار المساهمة الظرفية التي تم سنها خلال سنوات 2017و 2018 و2019.
أمّا الإجراءات الأخرى والمتضمّنة ترفيعا في الضرائب، والتي تمثّل أكثر من 10 % من مجموع الإجراءات المتّخذة خلال هذه الفترة فقد تمّ سنّها بصفة دائمة لا رجعة فيها. وتعتبر سنتي 2018 و2022 أكثر السنوات التي سجلت إجراءات ترفيع الضرائب والأداءات إذ بلغت على التوالي 14 إجراء و10 إجراءات.
هذا وتضمّنت بعض الإجراءات ترفيعا كبيرا في العبء الجبائي وبالتالي في نسبة الضغط الجبائي مع ما ينجر عن ذلك من آثار سلبية على كل محركات النمو. ومن بين هذه الإجراءات يمكن أن نذكر :
- الترفيع بنقطة في نسب الأداء على القيمة المضافة ،
- الترفيع «المشطّ» في المعاليم الديوانية وفي الأداء على الاستهلاك على عديد المواد والمنتجات ،
- الترفيع في نسبة الأداء على مرابيح المؤسسات المصدّرة،
- الترفيع في نسبة الخصم من المورد التحرري على الأرباح الموزعة من 5 % إلى 10 %
- سن مساهمة اجتماعية تضامنية على المداخيل والأرباح،
- الترفيع في المعلوم على حماية البيئة من 5 % إلى 7 %
كل هذه الزيادات أدّت إلى ارتفاع الضغط الجبائي ليبلغ مستويات عالية جدّا مثلما تبرزه عديد التقارير الصادرة عن المنظمات والهيئات المختصة في هذا المجال.
III- مستوى الضغط الجبائي والمؤشرات المتعلقة به.
من أهمّ المؤشرات التي تترجم مستوى الضغط الجبائي نذكر المؤشر الذي تصدره منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) والمتعلّق بنسبة ضغط الاقتطاعات الوجوبية (Pression des prélèvements obligatoires PPO). كما تشير عديد الدراسات إلى مؤشرات أخرى لقياس ضغط الأداءات أو حصّة هذه الأخيرة في معطيات أخرى كصافي الأجر وحجم الإنتاج ومجموع الأعباء...
1 - نسبة ضغط الاقتطاعات الوجوبية (جبائي واجتماعي)
يمثل ضغط الاقتطاعات الوجوبية حصة الأداءات والضرائب المستخلصة وكذلك المساهمات الاجتماعية في الناتج الإجمالي الخام.
حسب تقرير صدر مؤخّرا عن منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) تحتلّ تونس المرتبة الأولى إفريقيا ضمن 31 بلد، حيث تبلغ نسبة ضغط الاقتطاعات الوجوبية لسنة 2020، 32,5 % وهو ما يمثّل ضعف معدّل البلدان الافريقية المكوّنة للعينة موضوع الدراسة (16 %). ولغاية المقارنة يبلغ معدّل هذه النسبة لبلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية 33,5% أي بفارق نقطة واحدة عن النسبة المسجّلة بتونس.
ويتضمّن الجدول الوارد بالصفحة 35 لهذه الدراسة نسب ضغط الإقتطاعات الوجوبية لكل بلدان العيّنة والتي نذكر منها على سبيل المقارنة :
- مصر13,3 :
- رواندا 16,9 % :
- ساحل العاج 13,4 % :
- المغرب 28,3 % :
- إفريقيا الجنوبية 25,2 % :
2 - الركن الجبائي (Le Coin fiscal)
حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يمثّل الركن الجبائي الفارق بين التكلفة الإجمالية لراتب الأجير متوسّط الدخل (أعزب دون أبناء) والمبلغ الصافي للأجر الذي يتقاضاه هذا الأجير.
ويضيف هذا المصدر أنه يتعيّن الأخذ بعين الاعتبار لاحتساب هذا الفارق كل الأعباء الجبائية الوجوبية والمساهمات الاجتماعية التي يتحمّلها المؤجّر والأجير.
هذا وتختلف هذه النسبة من مطالب بالأداء إلى آخر حسب أهمية الأجر والوضعية العائلية، فكلما ارتفع الأجر إلا وارتفع الركن الجبائي، لذلك عادة ما نعتبر أن «لكل أجير ركنه الجبائي».
ولغاية الانسجام والمقارنة تعتمد الدراسات عادة وضعية أجير أعزب يتقاضى أجرا يعادل معدّل الأجور بالبلاد.
إذا ما اعتمادنا معدّل أجر شهري خام بــ 888 دينار، يكون الأجر الصافي السنوي في حدود 8.678 دينار أما التكلفة الإجمالية التي يتحملها المؤجّر، تبلغ 12.634 دينار، أي بركن جبائي بنسبة 32 %، ما مفاده أن الأجير يتحصّل تقريبا على ثلثي الأعباء التي يتحملها مؤجره. علما أنه في سنة 2006 كانت هذه النسبة 25 % ويمكن أن يتعدّى الركن الجبائي 50 % وذلك بالنسبة للأجور المرتفعة نسبيا.
مقارنة ببعض البلدان الأخرى تبدو هذه النسبة مشطّة جدّا لتشكّل عائقا كبيرا لدعم سياسة التشغيل والتقليص من نسبة البطالة. ومن بين البلدان التي تجدر المقارنة معها نذكر المغرب (23 %) ومصر (25,8 %) والأردن (24 %).
3 - معدّل الضريبة الضمني على الأجور والرواتب
« Taux Implicité de Taxation du Travail TITT»
في حين أن نسبة الركن الجبائي تختلف من أجير إلى آخر فإن معدّل الضريبة الضمني على الأجور يبرز حصّة أو نسبة إجمالي الضرائب والمساهمات الاجتماعية، المحمولة على الأجور مقارنة بإجمالي أجور العاملين في القطاعين العام والخاص.
من الناحية الاقتصادية يحدّد هذا المؤشر الفارق بين سعر الطلب وسعر العرض للعمل المأجور. بالتالي يعتبر هذا المؤشّر وسيلة تقييم هامّة نظرا لقدرته على تحديد مدى تكلفة التأجير الناتجة عن الضرائب ومساهمات الضمان الاجتماعي في سوق الشغل. فكلما ارتفع معدّل الضريبة الضمني على الأجور ازدادت تكلفة التأجير لتأثّر سلبا على الإنتاجية وبالتالي على القدرة على التشغيل.
أبرزت دراسة قام بها المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية سنة 2016 حول تقييم جباية العمل المأجور بتونس، نسبة مرتفعة نوعا ما لمعدّل الضريبة الضمني على الأجور إذ بلغت هذه النسبة سنة 2013 ، 31,06 متجاوزة النسب المسجّلة في عديد البلدان الأخرى مثل مالطا (23,3%) والبرتغال (25,4%) تجدر الإشارة أن النسبة المرتفعة لمعدّل الضريبة الضّمني على الأجور يشكل عائقا جدّيا للتشغيل وخاصّة حاملي الشهائد العليا.
الخلاصة
نستخلص ممّا سبق تقديمه حول تأثير الجباية على عديد المؤشرات الاقتصادية وخاصّة منها الاستثمار والتشغيل وكذلك نسبة النمو، أن الزيادة في الأداءات والضرائب وبالتالي في نسبة الضغط الجبائي تؤدي حتما إلى إعاقة النموّ الاقتصادي وعرقلة السياسات العمومية المتعلّقة بالتشغيل والاستثمار.
كما أبرزت هذه الدراسة نسبا مرتفعة بشكل صارخ للعبء الجبائي المحمول على الأنشطة الاقتصادية (نسبة الضغط) والمحمول كذلك على الأجور فيما يتعلّق بالركن الجبائي وبمعدّل الضريبة الضّمني على الأجور، حيث تفوق هذه النسب، بفارق هامّ، تلك المسجّلة ببلدان قابلة للمقارنة مع تونس كالمغرب ومصر والأردن ومالطا.
بالنظر لكل هذه المعطيات هل يستقيم مواصلة الزيادة في الأداءات والضرائب وبالتالي في الضغط الجبائي؟
لا بدّ من التوقف عن الزيادة في الضرائب والأداءات، بل التفكير في التخفيض فيها، بعد ست سنوات شهدت فيها الجباية ارتفاعا غير مسبوق.
منبــــر: حذار ثمّ حذار من الترفيع في العبء الجبائي
- بقلم فيصل دربـال - رئيس شرفي لهيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية
- 12:10 19/12/2022
- 1299 عدد المشاهدات
تتّسم الجباية بتعدّد المفاهيم المتعلّقة بالممارسات وخصوصيات المادة، إذ نثير عادة، بعض المفاهيم، كالغش الجبائي والضغط الجبائي والتهرّب الجبائي