بل على الذات البشرية كذلك.فقد عرفت الإنسانية مع جائحة الكوفيد أحد أهم الأوبئة منذ أكثر من قرن مع الحمى الإسبانية.وكانت لهذه الجائحة نتائج رهيبة على الحياة الإنسانية وعلى الذات البشرية مع عدد كبير للموتى والمرضى .وإلى جانب انعكاساتها الصحية والنفسية كانت لهذه الجائحة انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة .حيث عرف الاقتصاد العالمي أكبر فترة انكماش وتراجع منذ الحرب العالمية الثانية.ولعل أهم نتيجة إيجابية لهذه الأزمة الصحية العالمية كانت نجاح الباحثين والعلم والصناعة الطبية في إيجاد التلاقيح الضرورية للحدّ من خطورة الوباء في آجال قياسية .
ومع تراجع حدة الوباء ظهرت أزمة عالمية جديدة مع الحرب الروسية في أوكرانيا والتي ساهمت في الارتفاع الكبير لحالة التوتر والاضطراب التي يشهدها العالم .
دخل العالم في مرحلة جديدة من الاضطرابات والتوتر خلقت مناخا من الشك والحيرة وعدم الاستقرار .وطرح هذا الوضع الكثير من الأسئلة التي تتطلب التفكير والتمحيص من أجل ضبط السياسات القادرة على التخفيض من حدّة هذه الأزمات .ولعل أحد أهم الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا تلك التي تهم انعكاسات هذه الفوضى التي يمر بها العالم على بلدان الجنوب والسياسات الضرورية التي يجب وضعها من أجل إيقاف النزيف وبناء مناعتها.
وسنحاول في هذا المقال الوقوف على خصائص هذا الوضع العالمي الجديد وطبيعته العميقة قبل أن نحدد العناصر التي تساهم في تدعيم مناعة الدول أمام هذه الفوضى التي تهز أركان العالم .
• في طبيعة وخصائص فوضى العالم:
أشارت عديد الدراسات إلى التقلبات والتحولات الكبرى والاضطرابات التي مر بها العالم في العشرية الأخيرة .وقد خلقت هذه الوضعية الجديدة واللحظة المفصلية في تاريخنا الحديث وضعا من الشك والاضطراب وعدم الاستقرار على عديد المستويات من الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وحتى النفسي .
وهذه التحولات والاضطرابات في رأيي مؤشر لأزمة عميقة تعتمل في أحشاء وحركة النظام العالمي .وهذه الأزمة تهم النظام العالمي الذي ظهر منذ بداية الثمانينات وهو نظام العولمة الذي أتى لتعويض نظام الدولة الوطنية أو دولة الرفاه والذي خيرته البلدان المتقدمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
وقبل الخوض في الأزمة الحالية والوقوف على أبرز سماتها سنقدم بعض الملاحظات حول ماهية النظام الدولي أو (régime international) ويتكون هذا النظام من جملة القواعد والاتفاقات التي تنظم العلاقات بين الدول .وتسهر عديد المؤسسات ونظام قوى الهيمنة على تطبيق هذه القواعد والأسس واحترامها من قبل كل عناصر النظام الدولي من دول ومنظمات إقليمية ودولية .
إن مشروعية أي نظام دولي – في رأيي - ترتبط بقدرته على توفير أربعة أركان أساسية تسمح بتنظيم العالم والحياة المشتركة بين الدول والأفراد بطريقة مدنية .وهذه الأسس تهم قدرة النظام العالمي على تحقيق السلم وتفادي الحروب والفتن والصراعات الكبرى .وبالعودة للتاريخ نشير إلى أن اندلاع الحرب العالمية الأولى كان اثر سقوط النظام العالمي الموروث منذ أواسط القرن التاسع عشر والذي ارتكز على الإمبراطوريات الكبرى التي حكمت العالم .كما أن مشروعية نظام الدولة الوطنية الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية ارتكز على الالتزام بتفادي الحروب والصراعات التي كادت أن تعصف بالإنسانية .
أما الأساس الثاني الذي ساهم في مشروعية ومقبولية النظام الدولي فيهم الاستقرار السياسي وقدرته على خلق وبناء المؤسسات التي تحافظ على الاستقرار وتحميه .فكانت الدولة الوطنية بمؤسساتها واختياراتها في إطار الحدود الجغرافية الوطنية أساس النظام العالمي الذي تم بناؤه اثر الحرب العالمية الثانية والذي تواصل إلى نهاية السبعينات .
ويهم الأساس الثالث الرفاه الاقتصادي وقدرة النظام الدولي على خلق الثروة والرخاء والازدهار لكل الدول المشاركة .وقد نجح نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية في مجال الاقتصاد ومكن العالم من أي يعرف فترة رفاه كبير أطلق عليها الاقتصاديون «الثلاثيين سنة الذهبية» والتي عرفت مستويات نمو لم يعرفها العالم من قبل .وستكون نهاية هذه الطفرة والركود التضخمي الذي سيعيشه العالم في السبعينات أحد أهم أسباب انخرام وأزمة هذا النظام العالمي .
أما الأساس الرابع فيخص قدرة النظام على الإدماج الاجتماعي وعلى خلق عقد اجتماعي يسمح لكل الفئات الاجتماعية بالانخراط في حركة المجتمع والابتعاد عن التهميش .
وتشكل هذه القواعد الأربع أسس الأنظمة الدولية وأرضية هامة لاستقرارها ولإعادة إنتاجها والتي تمتد على مدة زمنية تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة عقود .
واثر أزمة نظام الإمبراطوريات الكبرى بعد الحروب العالمية الأولى عرف العالم تداول نظامين دوليين اثر الحرب العالمية الثانية .نظام الدولة الوطنية الذي امتد من نهاية أربعينات القرن الماضي إلى منتصف السبعينات ثم نظام العولمة الذي انطلق منذ منتصف الثمانيات ونحن نعيش اليوم على وقع أزماته المتعددة .
وقد جاء نظام العولمة لتجاوز أزمات نظام الدولة الوطنية في منتصف السبعينات وصاحب هذا التحول صعود الفكر النيوليبرالي على جميع المستويات من السياسي إلى الاقتصادي إلى الاجتماعي لإنهاء مرحلة وهيمنة الفكر الاشتراكي الديمقراطي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
وقد عرفت مرحلة التأسيس صعود القوى اليمينية في أغلب الديمقراطيات مع انتصار الأحزاب اليمينية ووصول تاتشر في بريطانيا وريغان في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحكم وقد عملا على إنهاء الدور الأساسي للدولة وتحرير الأسواق وفتح المجال أمام الشركات الكبرى وتطور حركة رأس المال والتجارة الدولية والأسواق المالية العالمية .
وقد خلقت هذه الثورة النيوليبرالية نظاما دوليا جديدا وطفرة اقتصادية وتجارية مالية كبرى.ونجحت العولمة في بناء الأسس الكبرى لنظام دولي جديد وتجميع الخصائص لبناء مشروعيته .فعرف العالم فترة هامة تراجعت فيها حدة التوازنات السياسية بين القوى الكبرى وتراجعت المخاطر التي عاش العالم على وقعها مع الحرب الباردة .
وقد ساهم سقوط جدار برلين سنة 1989 ونهاية المعسكر الاشتراكي في تراجع حدة التوتر وظهور فترة من التعايش السلمي بين مختلف أقطاب النظام الدولي تحت هيمنة المظلة الأمريكية .
كما عرفت هذه المرحلة فترة من الاستقرار السياسي حيث لعبت المؤسسات الدولية وبصفة خاصة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة والمؤسسات المالية الدولية وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دورا مهما في المحافظة على حوكمة العلاقات الدولية .
وقد لعبت هذه المنظومة دورا مهما على المستوى الاقتصادي وفي خلق فترة من الرخاء والازدهار من خلال التطور الكبير لإنتاج الثروة مع تطور كبير لسلاسل الإنتاج على المستوى العالمي وخلق توزيع جديد للعمل بين الدول تقوده وتتحكم في ديناميكيته كبرى الشركات العالمية .كما عرفت هذه الفترة تطورا كبيرا للتجارة العالمية والاستثمار العالمي وتطور حركة رؤوس الأموال في الأسواق العمالية العالمية .
ولعل المسألة الأهم في هذه المرحلة في فترة الرخاء التي عرفها العالم في هذه الفترة أن البلدان الرأسمالية لم تكن المستفيدة الوحيدة .فقد نجحت عديد البلدان من العالم الثالث في الانخراط في هذه الديناميكية الاقتصادية مما مكن العديد منها مثل الصين والهند وبلدان شرق آسيا والبرازيل والأرجنتين وبعض البلدان الأخرى في أمريكيا اللاتينية من الاستفادة من هذه الطفرة والرخاء الذي عرفه العالم لتصبح في فترة زمنية قصيرة منافسة للبلدان الرأسمالية التقليدية وتضع حدا للهيمنة الكبيرة لبلدان المركز .
كما عرفت هذه المرحلة تطورا كبيرا للاندماج الاجتماعي حيث خرج الملايين وخاصة في البلدان النامية من الفقر المدقع ليصبحوا جزءا من الطبقات المتوسطة .
كما عرف العالم في ظل مرحلة نظام العولمة فترة مهمة من الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي و الاندماج الاجتماعي .إلا أن هذه المرحلة ستبدأ تدريجيا في التآكل ولتدخل العولمة في فترة من الأزمات فتحت فترة جديدة من الشك وعدم الاستقرار .
وقد انطلقت هذه الهزات والاضطرابات مع الأزمة المالية لسنوات 2008 2009 والتي بلغت في خطورتها الأزمة الكبرى لسنة 1929 وكادت أن تعصف بالنظام الرأسمالي .
ثم عرف العالم فترة الأزمات الاجتماعية التي انطلقت مع ثورات الربيع العربي لتتواصل مع الحركات الاجتماعية في اغلب البلدان الرأسمالية والتي ستضع الإصبع على مسألة التعاون الاجتماعي وتصاعد الفوارق الاجتماعية في اغلب البلدان والتي ستقض مضاجع اغلب البلدان الديمقراطية وستفتح المجال واسعا لظهور وتنامي القوى الشعبوية .
ثم سيأتي الزلزال في اليابان في ماي 2011 والحادث النووي ليؤكد ا عمق الأزمة المناخية التي يعيشها العالم .وسيتواصل عدم الاستقرار وعجز الحكومات على ايجاد الحلول لإعادة بناء نظام عالمي جديد حيث ستكون جائحة الكوفيد 19 إنذارا جديدا على ضرورة الخروج من هذه الأزمات .
ومنذ أشهر اتجهت هذه الأزمة إلى أحد أهم أسس النظام الدولي ونظام العولمة وهي مسالة السلم مع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتوتر الذي تشهده أهم دول العالم وخاصة الصين والولايات المتحدة الأمريكية بخصوص تايوان .
ويمر العالم اليوم بجملة من الاضطرابات والتوترات التي تمس أسس النظام العولمة وتفتح فترة جديدة للبحث عن نظام دولي جديد.وفي الأثناء تنتج هذه الأزمات انعكاسات سلبية ومرحلة من عدم الاستقرار والشك والرهبة تمس الدول والمجتمعات وحتى الأفراد .
والسؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة لبلداننا تهم مناعتها وقدرتها على الصمود أمام هدير الأمواج القادم من وراء البحار .
قهوة الأحد: فوضى العالـم وعناصر الهشاشة في الجنوب
- بقلم حكيم بن حمودة
- 10:23 14/11/2022
- 1312 عدد المشاهدات
يمر العالم اليوم بلحظة مفصلية حيث تتوالى الأزمات والتحولات الكبرى التي كانت وراء الكثير من الخوف والرهبة لا فقط على مستقبل البلدان والدول