تعتبر المهمة الأساسية للبنوك المركزية بعد الإصلاحات التي عرفتها منذ منتصف التسعينات وحصولها على استقلاليتها عن مؤسسات الدولة المحافظة على استقرار الأسعار وحماية الاقتصاد ضد غول التضخم .
وتُعتبر الأزمة التضخمية التي يمر بها العالم اليوم أحد أهم الأزمات التي تواجهها البنوك المركزية منذ بداية الثمانينات .وتشكل هذه الأزمة محكا ستختبر فيه قدرة البنوك المركزية على الحدّ من التضخم وإيقاف آثاره الصعبة لا فقط على المستوى الاقتصادي بل كذلك على المستوى الاجتماعي .
لمواجهة مخاطر التضخم قامت بتغيير كبير في سياساتها النقدية ودخلت في سياسة تشددية تقطع مع الطابع التوسعي الذي ميزها منذ أكثر من عقد من الزمن .
• السياسة النقدية والتشدد لمحاربة التضخم
عرفت السياسات النقدية على المستوى العالمي تغييرات جذرية منذ نهاية سنة 2021.ويمكن أن نشير إلى أن السياسات النقدية الجديدة تتميز بخاصيتين مهمتين في أغلب بلدان العالم .
تهم الخاصية الأولى الخروج من السياسة النقدية التوسعية وبداية مرحلة جديدة تتميز بالتشدد من خلال الترفيع في نسب الفائدة المديرية والإيقاف التدريجي لسياسات التوسع الكمي (quantitative easing) .
وقد انطلقت السياسات التوسعية للبنوك المركزية منذ بداية القرن لدفع النمو وإبعاد شبح الانكماش الاقتصادي مع التراجع الكبير للتضخم الذي ظل لسنوات طويلة تحت مستوى %2.وقد تدعمت هذه السياسات التوسعية مع الأزمات الكبرى التي عرفها العالم في العشرية الأخيرة انطلاقا من الأزمة المالية الكبرى لسنوات 2008 و2009 والتي هزت أركان الاقتصاد العالمي وتطلبت تدخل البنوك المركزية إلى جانب الدول لتجنب سقوط الاقتصاد العالمي نحو الهوة .
وقد تجدد تدخل البنوك المركزية مع أزمة الكوفيد 19 للتقليص من حدة الانكماش الذي عرفته اغلب بلدان العالم أمام غلق المجتمعات والتراجع الكبير للنشاط الاقتصادي .إلا أن الصعود الكبير في معدلات التضخم دفع البنوك المركزية إلى القطع مع السياسات التوسعية والدخول في مرحلة جديدة من التشدد لكبح جماح التضخم وإيقافه .ولئن انطلقت هذه السياسات مع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الا انها امتدت إلى اغلب بلدان العالم .
أما الخاصية الثانية التي ميزت هذا التحول في السياسات النقدية فتهم طابعها الواقعي والبراقماتي وقطعها مع لحظة الفولكلور التي عرفتها هذه السياسات في بداية الثمانينات.وبول فولكلور محافظ الاحتياطي الفدرالي الأمريكي أي البنك المركزي الأمريكي وقد عينه الرئيس جيمي كارتر سنة 1979 وقد اتبع سياسة نقدية راديكالية لإيقاف التضخم الذي عرفته أمريكا وأغلب بلدان العالم في السبعينات .
وقد قام فولكلور بالترفيع بطريقة كبيرة في الفائدة المديرية التي بلغت %19.ولئن نتجت عن هذه الرجة الكبيرة للسياسة النقدية فترة طويلة من الانكماش الاقتصادي وصعود كبير للبطالة الا انها نجحت في القطع مع التضخم .
وقد اتبعت أغلب البنوك المركزية في العالم الخيار الراديكالي الذي قام به فولكلور لتنحاز إلى خياره الراديكالي حتى أصبح هذا الاختيار لحظة فارقة في السياسات النقدية على المستوى العالمي .إلا أن التغيير والتحول الذي عرفته السياسات النقدية في الأشهر الأخيرة يختلف بصفة كبيرة عن لحظة فلكلور حيث تميز بالواقعية والبراقماية والتدرج في الترفيع في نسب الفائدة المديرية .
وتعتبر هذه الاختيارات الجديدة بداية تغيير وتحول في هوية البنوك المركزية لتجعلها ورغم استقلاليتها تفتح محيطها ومجال اهتماماتها على قضايا ليست بالضرورة من مجال اختصاصها مثل النمو والاستثمار والتحولات الكبرى للاقتصاد.والسؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه ما مدى قدرة هذه التحولات في هوية البنوك المركزية وفتح مجالات اهتماماتها والخروج بها من الوحدة والنقد الذي ما انفك يوجه إليها باعتبارها حارسة الفكر الاقتصادي الاوروتوذكسي المنغلق على نفسه وعلى نظرياتها والبعيد عن اهتمامات المجتمعات وصعوباتها ومتاعب الحياة اليومية لعموم الناس .
• في تطور دور البنوك المركزية
إلى جانب خروج السياسات النقدية من ميزتها التوسعية إلى التشدد صاحب هذا التطور تحول كبير في دور البنوك المركزية التي فتحت في صمت كما هو الشأن معها مجال اهتماماتها إلى مسائل غير تقليدية ولا تندرج في محيط عملها .
ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى ثلاث مسائل أساسية أصبحت من أولى اهتمامات البنوك المركزية .تهم المسألة الأولى قضية النمو التي لئن كانت من أولويات اهتمامات البنوك المركزية التقليدية كالفدرالي الأمريكية الا أنها تراجعت في سلم اهتمامات البنوك المركزية منذ بداية فترة الإصلاحات الليبرالية في بداية التسعينات لتنصب أولوية البنوك المركزية في العالم وتحت تأثير بعث البنك المركزي الأوروبي على مسألة التضخم .إلا أن هذا الوضع شهد بعض التغيير في الأشهر الأخيرة ولئن حافظت على أولوية هدف محاربة التضخم إلا أن البنوك المركزية عملت على الابتعاد عن السياسات الراديكالية ولحظة فولكلور التي من شأنها أن تقتل النمو في المهد وتزيد من صعوبات البلدان وخاصة النامية منها .
المسألة الثانية والتي تهم هذا التحول في اهتمامات البنوك المركزية فتخص الاستثمار اذ نلاحظ أنها حاولت حمايته في ظل ارتفاع نسب الفائدة المديرية من خلال وضع ابتكار أدوات جديدة كتخصيص خطوط تمويل ذات نسب فائدة ضعيفة لدعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة.
ويهم التحول الثالث الذي يميز الدور الجديد الذي تسعى البنوك المركزية الى القيام الجانب الهيكلي والتغييرات الجذرية التي تشق الاقتصاد العالمي .وتمكن الإشارة إلى أربع تحولات كبرى تحاول البنوك المركزية أن تلعب فيها دورا فاعلا .يهم التحول الأول دخول الرقمنة والتي أصبحت تشكل واقعا مهما .وتقوم البنوك المركزية بدور أساسي في تنظيم وانجاز التحول الرقمي في المجال المالي والنقدي والبنكي .
أما التحول الثاني فيخص التحول الطاقي والمناخي حيث تقوم البنوك المركزية بدور مهم في دعم بناء الاقتصادية الأخضر والتنمية المستدامة من خلال وضع خطوط تمويلات مختصة تساهم في هذه التحولات .
ويهم التحول الرابع المسألة الاجتماعية التي أصبحت هاجسا مهما لدى البنوك المركزية وبصفة خاصة انعكاسات السياسة النقدية على الطبقات الاجتماعية الفقيرة والكادحة .وقد بدأت البنوك المركزية في تصور واستنباط الحلول والسياسات حتى تساهم من خلال السياسات النقدية في حماية المقدرة الشرائية للطبقات الضعيفة .
أما التحول الرابع في اهتمامات البنوك المركزية فيخص الاقتصاد العالمي وشبح الخروج من أزمة العولمة وبناء سلاسل إنتاج إقليمية .وقد بدأت هذه المسالة في الدخول في اهتمامات عديد البنوك المركزية لدراسة كيفية مساهمة السياسة النقدية في الاستفادة من هذه التحولات ودعم تنافسية بلدانها .
تشير هذه التغييرات إلى تطور كبير في دور ومهام البنوك المركزية في العالم .فصورة موظفي البنوك المركزية لم تعد تلك الصورة التقليدية للطالب القادم لتوه من الجامعة المسلح بما قراه في أدبيات ميلتون فريدمان (Milton Friedman) أب مدرسة شيكاغو ذات المنحى الراديكالي في السياسة النقدية والتي حاول تطبيقها بحذافيرها ضاربا عرض الحائط بتحديات الاقتصاد الحقيقي والنمو والاستثمار وتدهور الأوضاع الاجتماعية لضعاف الحال.لقد قطعت البنوك المزرية في العالم مع هذه الصورة النمطية والتقليدية لتصبح اكثر انفتاحا على الواقع الاقتصادي والاجتماعي من خلال فتح مجال اهتماماتها غير التقليدية مثل النمو والاستثمار والتوازن الاجتماعي .
السؤال الذي يطرح نفسه باستمرار هل أن هذه التطورات كافية لخروج البنوك المركزية من مأزقها وتحسين صورتها وتفادي النقد السياسي والمجتمعي لسياساتها؟
• تطور البنوك المركزية وتواصل النقد
ورغم محاولة البنوك المركزية تطوير دورها الاقتصادي إلا أنها لازالت محل نقد كبير من عديد القوى الاجتماعية وخاصة من المسؤولين السياسيين في أعلى هرم السلطة في البلدان المتقدمة .
ففي حديث له لليومية الاقتصادية الفرنسية» les échos» حذر الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون دون الإشارة بصفة مباشرة إلى البنوك المركزية الخبراء والمؤسسات التي تسعى للحد من التضخم من خلال التخفيض من الطلب في حديث له يوم 16 أكتوبر المنصرم.
أما الوزير الأول البرتغالي انطونيو كوستا فقد كان أكثر وضوحا ومباشراتية عندما أشار في حديث صحفي إلى أن «البنك المركزي الأوروبي يجب أن يكون أكثر حذرا في الترفيع من نسب الفائدة لمحاربة التضخم . ونجد نفس الموقف عند رئيسة الحكومة الايطالية الجديدة التي أشارت بكل وضوح في خطابها لنيل الثقة أمام البرلمان الأوروبي إلى أن قرار البنك المركزي الأوروبي بالترفيع في نسب الفائدة غير حذر .
ونجد أنفسنا اليوم أمام مفارقة كبيرة .فرغم من التطور والتحولات التي عرفتها البنوك المركزية من اجل الخروج من صلوحياتها التقليدية ووضع نصب اعينها إلى جانب أوليات محاربة التضخم اهتمامات جديدة مثل النمو والاستثمار والمسالة الاجتماعية إلا أنها وجدت نفسها من جديد تحت أسهم النقد وحتى الرفض من القوى الاجتماعية والسياسية وخاصة في أعلى مستويات السلطة .في رأيي يتطلب الخروج من هذه المفارقة من البنوك المركزية المواصلة في النهج الذي فتحته في الأشهر الأخيرة وإعطائه أكثر جرأة في جعل القضايا الاقتصادية والاجتماعية كالنمو والاستثمار والعدالة نصب أعينها وعدم الاكتفاء بدور الحارس الأمين لاستقرار الأسعار .
قهوة الأحد: هل يُمَكّنُ تطور دور البنوك المركزية الخروج من مأزقها ؟
- بقلم حكيم بن حمودة
- 11:37 07/11/2022
- 1594 عدد المشاهدات
جعل الوضع الاقتصادي والمالي الحالي على المستوى العالمي وخاصة انفلات غول التضخم من عقاله البنوك المركزية في واجهة الأحداث والحوار العام .