كثيرا ما يتمّ تفخيم دور «الشعب» والتغني بخصاله على أساس أنّه صاحب السلطة والسيادة وفي الحقيقة الغاية من ذلك استمالة عواطف الشعب وسلبه إرادته الحرّة عبر ذلك النوع من الدعاية التي تقوم بها أجهزة الحكم والموالين للحاكم للتفرّد بحكمه وتحييد كلّ من يعارضه ولا يتّفق معه،
فالشعب في المجتمعات المتحرّرة لم يعد ينظر إليه ككتلة واحدة موحّدة من الرعايا تدين بالولاء لصاحب السلطة، فالمفهوم الذي ساد بعد مخاض اجتماعي وفكري شهدته أوروبا على امتداد ثلاثة قرون وانتشار فلسفة عصر الأنوار حلّ مفهوم المواطنة المبني على التعدد المذهبي والفكري وحق الفرد في الاختلاف والتعبير والمشاركة في الحياة العامّة.
وذلك الفرق بين تلك الأمم المتحرّرة التي وضعت مصير شعوبها بين أيدي تلك الشعوب وبين الأمم التي ظلّت ترزح تحت مفهوم تحت مفهوم الأمة والشعب الموحّد والتي تدوس على حقوق الأقلّيات وتلغي دور الفرد.
ورغم الكوارث والمآسي التي تسبب فيها عبر التاريخ الحكم الفردي المطلق في العديد من بقاع العالم، فالمنطقة العربية مازالت تقاوم كلّ تغيير وانخراط صريح في «نادي» الدول الديمقراطية وتعوز المصائب والكوارث التي تنزل عليها من حين لأخر إلى تسلل مفاهيم التعدد والتنوع وحرية والاختراقات الأجنبية، وتعتبر ذلك من بين الأسباب لفشل ما يسمّي بالربيع العربي وغرق البلدان التي مرّ بها في الفوضى والدماء.
ومن المفارقات أنّ تونس التي كانت مهد ذلك الربيع الذي تحوّل إلى صيف حارق نجت من الفوضى والعنف بالرغم من كلّ الأزمات والتقلّبات التي شهدتها خلال عشرية كاملة، ربّما يعود ذلك إلى الخصائص التاريخية والجغرافية التي تتميز بها عن محيطها كما يذكر البعض، لكن الأكيد أن إرث الحركة الإصلاحية التي انطلقت بتونس منذ أواسط القرن التاسع عشر ساعدها على ذلك، ووضع دولة الاستقلال اللّبنات الأولى لتحديث المجتمع بالإصلاحات التي أنجزتها في مجال التعليم والصحة وتحرير المرأة بات يهيأ المجتمع التونسي لنقلة نوعية نحو الحداثة والديمقراطية، لكن غياب الإرادة السياسية في الاعتراف بحق المواطن
في المشاركة في الحياة العامّة بحرّية أجّل ذلك لمّة طويلة وكان وراء الفجوة التي حصلت بين النخب والدولة الوطنية، ودفعت النخب الطلابية والنقابية والنسوية والسياسية إلى خوض مواجهات مفتوحة للمطالبة بالحريات العامّة والفردية.
لكن الفشل الذي رافق التجربة السياسية بعد ما يسمي بثورة 14 جانفي أدخل الشك في نجاعة المفاهيم الديمقراطية وأعاد البلاد إلى دوّامة الصراعات والجدل البيزنطي، فهل كانت تلك التجربة ضحية مؤامرة مسبقة من أحد الأطراف السياسية وبالتحديد» الإسلام الساسي» لاختراق مفاصل الدولة وتغيير صبغة المجتمع؟ أم أنّ تلك النخب فشلت في تحويل ذلك التراكم الهائل إلى مشروع سياسي مدني متطابق مع البيئة الاجتماعية والثقافية التونسية؟
مسؤولية الأطراف التي تولّت صدارة الحكم في تلك العشرية واضحة ولا يمكن التغافل عنها، لكن إلى الآن لم يتمّ تفكيك تلك المرحلة وتشخيصها بأدوات تحليل علمية للوصول إلى استنتاجات موضوعية تساعد على إصلاح المسار.
تلك الانتكاسة وضعت البلاد في مفترق الطرق من جديد، فـ 25 جويلية تجاوز حدود الإطار والأهداف المعلن عنها عند حدوثه وتحوّل إلى مشروع بديل ليس للحكم فقط بل للمجتمع برمّته، ويجد أنصاره في تعثر العشرية الفائتة وما حصل فيها من تدهور للأوضاع لتغذية نقمة الجمهور المحبط من سياسات تلك الفترة وتهيئته للانخراط في مشروع الرئيس والقبول بقلب نظام الحكم وأسس المجتمع رأسا على عقب، وبعد سنة من استبعاد الأحزاب المتّهمة بالعجز والفساد عن دفّة الحكم ومسك الرئيس بكامل خيوط اللعبة ونشر مشروع دستور الرئيس لم تعد خافية طبيعة الجمهورية الجديدة التي يبشر بها الرئيس وطريقة الحكم فيها ، وبعد تجربة الحكم بالمراسيم التي جعلت من الرئيس محور كلّ القرارات فإن هذا الأمر سيكون مفنّنا بالدستور في المستقبل وبنفس الدستور سيتم إنهاء الوجه المدني للدولة وإعادتها لحضيرة الفقه الديني.
من جهة أخرى فإنّ النخب التي سايرت الرئيس وساندته بحجّة انّه لا يوجد سبيلا أخر لاستبعاد تلك القوى التي أضرّت بالبلاد ولاعتقادها في قدرتها على احتواء الخطاب الشعبوي وتوظيفه لإنتاج مشروع مبني على العقل والمنطق إلى حدّ ما، لكن مضامين الدستور جعلتها تستفيق من غفلتها، ليس فقط بسبب عدم نجاحها في إدراج بعض رؤاها الإصلاحية بل لرؤيتها المكاسب المدنية والمواطنية كيف أصبحت مهدّدة
والسؤال الذي أصبحت كلّ الساحة السياسية والمدنية والاجتماعية والتي نوعا من الغفلة والاستسلام على امتداد عام كامل، هل أن حصول أخطاء وتجاوزات وحتى جرائم فساد سبب كاف لإلغاء مسار خطته أجيال بنضالاتها في إرساء مجتمع الحقوق والديموقراطية والعودة إلى منطق الشعب الكتلة وتسليم رقبة
الدولة والمجتمع في يد «المستبد العادل»؟
هل يمكن البناء على اختيار ولو بالصندوق في ظلّ حملة من شحن العواطف والغرائز حتى أنّ شعار بعضهم التصويت ولو على مجلة «مجلّة عرفان» ؟
وواضح أنّ «المهرجان» المقبل لن ينهي الأزمة ولن يحقّق الاستقرار وأنّه يمكن تخدير روح المواطنة لدى الشعب التونسي لفترة لكن من المستحيل تحويله إلى رعايا على الدّوام وأنّ مسيرة الشد والجذب ستتواصل، لكنّها ستكون مضنية أكثر في المرحلة المقبلة.